التروايح "28"
سأعلق تعليقا موجزا على سور القرآن من "الملك إلى النبأ" إن مقاصد هذه السور تختلف حسب الأزمنة والأمكنة وحسب أسباب النزول؛ لكنها تتفق في التناسق والتماثل والتكامل المحير للأفئدة والأبصار "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"تتحدث السورة عن غاية الخلق "الابتلاء" وآيات الخالق، ومصير المخلوقات، وفي القلم يأتي الحديث عن رسول الله الذي يربط بين السماء والأرض معززا بالبراهين الدالة على صدق نبوته بما في ذلك أخلاقه العظيمة: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" كما تتحدث السورة عن المكذبين ومصيرهم، الشيء الذي تُحقه سورة الحاقة وتبرزه، حين تعرض مصير المكذبين من الأمم السالفة، " فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (*) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ" وفي السياق ذاته تسير سورة "المعارج" الذي تركز علي عظمة يوم الحساب: "تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كما تبين تغير معالم الكون " يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (*) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ"وتأتي سورة نوح لتقص الجهد الذي بذله نوح عليه السلام في الدعوة، وإعراض قومه عنه، ثم تصف ما يحيق بهم مما حاق بغيرهم من المكذبين، وكأن السورة جاءت تثبيتا لقلب النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له عن إعراض المشركين عن دعوته، وفي سورة الجن تبيان لتأثير القرآن الكريم وتجاوز نوره إلى الجن، وإيمان بعضهم به، وفي المزمل التي هي من أوائل ما نزل من القرآن أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للمؤمنين من بعده بقراءة القرآن " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (*) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (*) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (*) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا" والصبر على إيذاء المشركين: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" وفي السياق ذاته نزلت سورة المدثر التي تحث النبي صلى الله عليه على الدعوة، والصبر عليها، وفيها سرد لقصة الوليد بن المغيرة مع القرآن ووعيد شديد له على تكذيبه بعد أن فكر وقدر، وأوصله عناده إلى التقول على القرآن واعتباره سحرا "فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (*) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (*) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ" ثم تأتي سورة القيامة وصفا ليوم القيامة كما يتجلى من اسمها، حيث تدأ السورة بتأكيد البعث " أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ" كما تتحدث عن تجليات هذا اليوم الجلى "فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ"كما تتحدث السورة عن مصير الخلائق في هذه اليوم، وعن أعمالهم التي جعلت فريقا منهم في الجنة وفريقا في السعير. وتتحدث سورة الإنسان عن الإنسان حيث تبدأ قبل ميلاده "هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا"، ثم تتحدث عن تكوينه، وعن استعداده الفطري للهداية، ثم تتحدث عن مصيره بعد ذلك مبينة ما أعد للكافرين في النار من عذاب، وما أعد للمتقين في الجنة من نعيم، وفي أثناء ذلك تشير السورة إلى الأسباب التي تنال بها الجنة رابطة بين الإيمان بالله والخوف منه، وبين الإحسان إلى مخلوقاته: " يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (*) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا"، وغير بعيد من هذا السياق تتنزل سورة المرسلات، التي توكد البعث وتقسم عليه في بدايته، وقد اختلف المفسرون حول المقصود بالمرسلات وما وصفت به، بين من يراها وصفا للملائكة، ومن يراها وصفا للرياح، ومن يراها وصفا للقرآن، لكن ـ رغم الاختلاف ـ فلا خلاف في أنها وردت على سبيل القسم توكيدا ليوم القيامة، ووصفا لبعض الأحداث الكونية المصاحبة له: "فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ..."، ثم تتحدث السورة بعد ذلك عن المكذبين، وتخاطبهم على سبيل التهديد والتوبيخ، مبينة مصير أسلافهم: "أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ"، ثم تتحدث بعد ذلك عن آيات الله التي لو تفكر فيها المكذبون لما وجدوا إلى التكذيب سبيلا، وتنبه السورة في ختامه إلى أكبر الآيات التي هي القرآن موبخة على عدم الإيمان سياق الاستفهام الإنكاري: " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
الدكتور افاه الشيخ مخلوك