قبل ان يتم نشره في مطلع الثمانينات من القرن الماضي ,, اعتمادا علي مخطوطات نادرة محفوظة في كل من المغرب و تونس و قبل ان يهتم به الباحثون الموريتانيون انطلاقا من الاثار المحلية بما فيها من روايات شفهيه و مخطوطات في المكتبات الاهلية من ابرزها مخطوط نفيس بمدينة تيشيت , لبث كتاب السياسة او الاشارة في تدبير الامارة لصاحبه ابي بكر محمد ابن حسين الحضرمي المرادي المعروف في الذاكرة الشعبية عندنا بالأمام الحضرمي دفين أزوكٌي مهد المرابطين ,,, في كهفه نسيا منسيا ,, و لعل هذا النسيان الملحوظ هو او ما يلفت انتباه قارئ الكتاب المذكور و بالتالي يزيده رغبة في الاطلاع علي اسراره و علي شخصية صاحبه من خلال مقدمات المحققين فيه و مقالاتهم و هوامشهم و استنباطاتهم التي تقود الي اكثر من علامة استفهام حول حياة رجل من رجالات التاريخ التأسيسي لدولة المرابطين ضاعت اثاره في محيط من الغموض و صارت اخباره عبرة للسائلين ..
و تأخذ الحيرة في امر صاحب الكتاب طابعا خاصا حين يكون القارئ موريتانيا تربي علي ذكر امام يعد ضريحه المعروف من ضمن المزارات المعهودة في بلده و تقول عنه الرواية الشعبية انه عاد بعد موته بزمان طويل ليملئ علما لدنيا علي امام اخر يعرف بالأمام المجذوب الذي كشف من وراء الحجاب المستور عن قبر الامام المجهول,,
لا شك ان تلك الرواية التي تجسدت في كتاب المنة في العقائد للأمام محمد بن أحسين الشمسدي الامام المجذوب شهرة الذي نقله بيده عن ’’ شيخه الولي الميت المدفون في أزكٌ محمد بن الحسن الحضرمي’’ و غيرها من الروايات المحلية التي احتفظت بها الذاكرة الشعبية و تناقلتها حكايات الجدات و التي ادت الي سجال بين اكابر علماء البلد الذين اختلفوا في الامام المجذوب و لا يزالوا في امره مختلفون,, البست علي صاحب كتاب السياسة قداسة تستعدي الخشوع في حضرته للسقي من معين بركته ,,,,
الا ان هذا الكتاب الذي غاب لأسباب غامضة عن كتب العقائد المعروفة بكتب علم الكلام التي عالجت الحكامة و السياسة في باب الامامة العظمي او الخلافة معتمدة في الاساس علي كتاب الاحكام السلطانية للمواردي (ت,450هجريه ) الذي عاش في زمن قريب من زمان صاحب كتاب السياسة مثير للاستغراب اذا علمنا ان اشياخ حركة المرابطين كانوا حسب اغلب ما ذهب اليه الباحثون اشاعرة في نهجهم العقائدي ,,,, فكيف يعقل ان لا نجد أي ذكر لصاحب كتاب الحضرمي (ت.489) في التأليف و الشروح المتعلقة بعقيدة الأشاعرة ؟
لقد ذهب البعض الي القول بان المرابطين كانوا سلفيين بالمفهوم الحديث بحجة انهم احرقوا كتب الامام الغزالي في الاندلس ,, الا ان المعطيات التاريخية الثابتة تظهر العلاقة الفكرية الوثيقة بين الشيخ الاول ابي عمران الفاسي بشيخ الاشاعرة الباقلاني الذي اخذ عنه الاصول في بغداد ايام المد العقائدي الاشعري ,,
الا ان التباين في الاسلوب بين نهج المعلم الاول و المنشئ الفعلي لدولة المرابطين عبد الله ابن ياسين (ت 451.. 1059م) و المعلم الثاني الحضرمي الذي ارتبط به الامير ابو بكر ابن عامر ( ت 480هجريه/ 1087) بعد وفاة عبد الله ابن ياسين جلي من خلال قراءة كتاب السياسية او الاشارة في تدبير الامارة التي تبرز معالم شخصية متأثرة بفلسفة السياسة كما تعرف علي نهج ارسطو بل ان بعض الباحثين رأي فيه ’’ منهجا مكيفاليا قبل اوانه’’ و يختلف هذا الانطباع الذي تتركه قراءة كتاب السياسة لدي مُطالعهِ ,,مع ما اشتهر به المعلم الاول عبد الله ابن ياسين من صرامة في التعامل مع الحكم من منظور ديني بحت كزعيم روحي يتولى تعليم احكام الدين في الجهاد و في الزكاة و الاعشار مقاتلا في صفوف الجيش طالبا للشهادة و تاركا السلطة السياسية للأمير ابي بكر ,, امير الحق ,, الذي يقبل بتعليمات المعلم عبد الله ابن ياسين الأمر و الناهي في الدولة الذي طال سوطه التأديبي الامير ابي بكر لما باشر القتال بنفسه,,,,,
فمن قراءة كتاب السياسة للأمام الحضرمي الذي صاغه مُبوبا ’’ وقسم ابوب هذا الكتاب ,علي ما فيه من الآداب, فكانت ثلاثين’’ بطلب من الامير ابي بكر ابن عامر ليكون بمثابة دستور او علي الاقل مدونة سلوك للعاملين في حقل السياسة بدولة المرابطين , يتضح جليا ان المعلم الثاني كان مثقفا بالمعني العصري للكلمة متشبعا من الفكر الفلسفي و من حِكمٍ الامم الأخرى ,مطلعا بقراءة متعددة الابعاد لأمور السياسة , و لشروطها و لمواصفات اهلها ,, و قد يتساءل القارئ عن صلته بكتاب السياسة لأرسطو الذي لم تصلنا منه ترجمة الي اللغة العربية ,, من عصر قدماء العرب الذين اعتنوا بكتب الفلاسفة اليونانيين ,,
فقراءة كتاب السياسة تذكر الي حد ما و مع اختلاف في الموضوع بنهج ابن حزم الفقيه الذي تجرد من اسلوبه الفقهي في كتاب طوق الحمامة ,, و الذي يقال انه ألف كتابا في السياسة لم تصلنا محسوب في قائمة الكتب المفقودة فعلي ذألك النهج سار الامام الحضرمي الذي يعتبر ه بعض المؤرخين اول من ادخل علم العقائد في المغرب الأقصى و في الصحراء الكبرى ,, في كتابته حول ادأب السياسة فنراه هو الاخر يتجرد من وصف شيخ المتكلمين الذي عرف به حين يضع كتابا يتميز بطابعه الفلسفي و السياسي المستنبط من حكماء الاقدمين و من عادات الامم الأخرى,,
فمن الواضح ان صاحب كتاب الاشارة في تدبير الامارة الذي تم التقديم لكتابه ’’ بقال الشيخ الفقيه,’’ و في رواية اخري ’’ بقال الشيخ الامام الفقيه’’ صاغ كتابه بأسلوب يختلف عن اسلوب الفقهاء في تأصيلهم لأقوالهم بالأدلة الشرعية من القران و الحديث التي لا تتجاوز سبعة أدلة في الكتاب المذكور ,, و تتعلق تلك الادلة بالنسبة للقران الكريم بمجالات ك الانفاق و التوسط في التكلف ( الباب الرابع والعشرين) و المعاملة بالتي هي احسن ( الباب السابع و العشرين ) ,, و فيما يتعلق بالحديث لم يستدل بأكثر من اربعة احاديث ذكرها في مجالات كتجنب سوء العادة (الباب الخامس) او كالعجلة المذمومة ( الباب الثالث و العشرين ) او كالخديعة و الغضب ( الباب الثامن والعشرين),,,,
علي العموم تتظاهر ابواب الكتاب من خلال عناوينها و مضامينها كجرد دقيق لمواصفات العاملين في حقل السياسة من خلال تصورات عملية منسوجة بأسلوب ادبي تتعين علي من يسعي الي تسيير الشأن العام او المشاركة في تدبير الشئون العمومية ,,,
اقوال رائعة تتعلق بآداب , كذكره لأمير فارسي كان يميز بين مواطنيه بملابس تختلف حسب مستوي سلوكهم اصالته من ادلة من القران و الحديث و الشعر العربي و ان كانت تلك الادلة لا تزيد كلها علي اثني عشر استدلال ... فأنها تدل علي حرص الكاتب علي السلوك الاخلاقي الذي يتعين علي السياسي الا ان ما يميز كتاب الاستشارة في تدبير الامارة يتجلى اساسا في,, فمن القيم العامة التي ينبغي ان تكون سلوكا و ثقافة عقلانية للمسئول كدور القراء ة و العلم ( الباب الاول) فالفرق بين الشريف و الخسيس في العلم ,, او كبعد النظر ( الباب الثاني) المرتبط بجلب المنافع و اتقاء المضرات ,,, نجده في الباب الثالث يحدد صفة المستشار و فضل الاستشارة ,, فالخطر في السياسة يكمن في الاستغناء عن رأي العقلاء ,,, و العيب في تملق المستشارين الحمقاء ,,,, و بهذا الاسلوب الممتع تتبع الكاتب و يقودك بحٌكم و اقوال مأثورة و عادات مسطورة متداخلة فيما بينها علي شكل دميات روسية يقودك الكاتب الي تتبع المزايا الحميدة كالعدل الذي يجلب العمران اذا نطق في دار الامارة و كالاعتدال في جميع الاحوال ,,,و كالتدرب علي العادات الجميلة ,, و كالتوفيق في الصحبة ( عن المرء لا تسل و سل عن قرينه@ فكل قرين بالمقارن مقتد ),,, البيت من الاستدلالات القليلة المتعلقة بالشعر العربي في كتاب السياسة’,,, كما يقودك الي تتبع اوصافه الدقيقة للحاشية و الجند و الاعوان و الكتاب و اصحاب الحجاب ,, و اصحاب السلطان كالوزراء و غيرهم من رجال السلطان ,,و لعل بيت القصيد في الكتاب هو وصفه الدقيق للسلطان نفسه ( الباب الثالث العاشر) ,, الذي قد يكون حسب الحكماء ,, سلطان عدل و امانه , ’’كدرة عمر رضي الله عنه التي كانت اهيب من سيف الحجاج’’, أو سلطان جور وسياسة , الذي يحتاج الي ’’ فنون من التدبير يستضعف بها القلوب,’’, او سلطان تخليط و اضاعة ,,,,,و تتصدر صفات السلطان عدة ابواب من الكتاب التي تبد و احيانا في غالب مكيافيلي ’’ خير السلاطين من كان نسر محاطا بالجيف و شرهم من كان جيفة محاطة بالنسور’’ ,, و تارة في وصف رائع لما يشبه الحكم الرشيد,, فالسلطان اما حازم ام عاجز ,, فالحازم نوعان حازم لا يستبق الاحداث بتجنب المشاكل, و هو الحاكم الافضل و حازم يعرف كيف يتغلب علي المشاكل التي يتعرض لها في حكمه ,, اما العاجز فهو الحاكم الذي لا يحسن توقع المشاكل و لا كيف يحلها ان هي وقعت ,,,,(الباب الحادي والعشرون),,,,,
و بتبويبه علي شكل مسطرة قانونية يقودك الكاتب بسرد تقني و متقون في صياغته الي جميع احوال الدولة في تسييرها من خلال شروط قيادتها عبر المزايا الحميدة و أضدادها كالرضا و الغضب و كالحزم و التفريط و كالكتمان و الاذاعة و كالشجاعة والجبن الي غير ذألك من الصفات التي نسجها الكاتب بمنطق ديالكتيكي جذاب,, و هكذا يتمثل كتاب السياسية جملة و تفصيلا في تشخيص لروح قوانين الحكامة في التعامل مع المحكومين ( الشعب بأقسامه و بطبقاته الباب الرابع عشر ) و مع الاعداء ( الحرب في الباب السادس و العشرين) ,,,حكامة تتطلب وجود حاكم عاقل , مطالع , مٌدرك , عادل , معتدل , حازم , متوسط في الانفاق بين الجود والامساك, متأني , شجاع , قوي محتال في الحرب , غير متجبر ,,, لين الكلام لأن ’’ من لانت كلمته وجبت محبته’’ (الباب السابع و العشرون),,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
عبد القادر ولد محمد / سفير و باحث
مراجع حول الموضوع :
1 كتاب السياسة او الاشارة في تدبير الامارة, تحقيق الدكتور سامي النشار ,,,, \
2 الخطاب السياسي لدي الحضرمي الازوكي .د اسماعيل ولد شعيب,,
3 الاصول الفكرية لحركة المرابطين ,,د حماه الله ولد السالم,,,
4,,مورتانيا من عهد غانا الي المرابطين ,,د الناني ولد حسين ,,,,,
مقالين ضمن مجموعة مقالات تاريخ موريتانيا,, جامعة نواكشوط
كتاب المنه للأمام محمد بن أحسين الشمسدي ( الامام المجذوب)
اشكالية العلاقة بالأمام الحضرمي, ,دراسة و تحقيق السني ولد عبداوه .