قائد "برخان" وانتحارية تمكبتو..!؟
أثناء قراءتي لتصريحات منسوبة لقائد قوات برخان الفرنسية في الساحل، الجنرال "برينو غيبير" لفتت انتباهي معلومة ذكرها في حديثه عن الهجوم الذي استهدف معسكرات "برخان" والقوات الدولية في مالي (المينيسما) الأسبوع الماضي، داخل مطار تمبكتو بشمال مالي، حيث حاول إعطاء تصور عن طبيعة التطور الحاصل في وسائل وأساليب "جماعة نصرة الإسلام والسملين"، فكان من ضمن ما قاله، إن إحدى السيارات التي نفذت بها هجمات انتحارية خلال العملية كانت تقودها امرأة.!
توقفت كثيرا عند هذه المعلومة، وقلبتها على أوجه كثيرة ذات اليمين وذات الشمال، وأعدت قراءة تصريح الجنرال أكثر من مرة، لعل وعسى أن أجد مزيدا من التفاصيل أو المؤشرات، فالأمر يستحق التوقف عنده، ولو حصل فعلا لكان منعرجا "سيسيولوجيا" و"أنثروبولوجيا"، يستحق التمحيص والتدقيق.
ولأن القائد الفرنسي ألقى هذه المعلومة مجردة، ولم يعط دليلا أو صورة أو اسما يؤكد ما ذهب إليه، كان لا مناص من التوقف بقراءة تحليلية عند هذا الخبر، تتوكأ على معطيات اجتماعية وتاريخية ودينية، أكثر من استنادها لمعلومات يقينية حاضرة تديرونها بينكم.
فبالعودة إلى تاريخ مكونات "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، خصوصا انتماءات قادتها من أصحاب القرار في قمة هرمها، وتاريخهم، سنجد أن الخبر يثير من الأسئلة أكثر مما يقدم من الأجوبة.
فلو رجعنا إلى بداية تسعينات القرن الماضي، تاريخ ظهور أول نواة للعمل "الجهادي" المسلح في هذه المنطقة، بالجزائر، وحين نتتبع تاريخ التنظيمات التي باشرت ذلك العمل، وبعضها اليوم جزء مؤسس في "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، سنجد أن دور المرأة في تلك التنظيمات اقتصر في الغالب الأعم على الدور التقليدي لها في المجتمعات المحافظة، كما هو الحال في الجزائر والصحراء الكبرى، فقد كانت زوجات المقاتلين السلفيين يومها يلتحقن بالجبل مع أزواجهن، ويتلقين تدريبات تركز أغلبها على الأساليب الدفاعية الذاتية، كما يتدربن على تقديم الإسعافات الأولية للجرحى، دون أن يكون لأي منهن دور هجومي أو قتالي، بل إن خروج المرأة للقتال أو لأي مهمة رجالية أخرى، تشكل إحراجا اجتماعيا إن لم تكن فضيحة ـ بالمفهوم التقليدي ـ تعطي الانطباع بعجز الرجال عن أداء أدوارهم حتى اضطرت النساء للقيام بها، وهو أمر به من الحساسية والإحراج ما يستفز المقاتلين الجزائريين ـ وليسوا بدعا من مجتمعات الصحراء في ذلك ـ للإعراض عن إقحام النساء في معارك الرجال، كما يصفونها.
فظل اسم المرأة بعيدا عن ساحات المعارك والعمليات الانتحارية في الجزائر، باستثناء اشتباه حصل في منفذ عملية انتحارية نهاية شهر يناير عام 2008، في مدينة ثنية بولاية بمرداس، حين تزامن وقوع تلك العملية مع اختفاء فتاة كانت محل متابعة من أجهزة الأمن، قبل أن يتبين لاحقا أن المهاجم كان رجلا وليس امرأة.
وبعد تمدد العمل المسلح ذي النزعة "الجهادية" إلى شمال مالي، اعتمد المقاتلون السلفيون استراتيجية جديدة تقوم على التزوج من نساء المنطقة وبنات الأحياء والتجمعات السكانية في الصحراء، دون الحاجة لجلب الزوجات إلى المعسكرات إلى في حالات قليلة، حين يتوفر مستوى من الأمن والأمان فيها، فظلت النساء في الصحراء بعيدات عن المعارك، بما يعنيه ذلك من ابتعادهن عن ميادين التدريب والتعبئة والاستعداد للقتل والقتال، وخلال السنوات السبع الماضية، استقطبت تلك التنظيمات العشرات من أبناء المنطقة، خصوصا من قبائل الإفوغاس الطارقية وقبائل الفلان، الذين شكلوا العمود الفقري لجماعة أنصار الدين بشقيها (أنصار الدين الشمال، وكتائب ماسينا)، بقيادة "إياد أغ غالي"، و"محمدو كوفا"، فضلا عن بعض القبائل العربية التي التحقت "بجماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا"، وانصهرت لاحقا في "جماعة المرابطون"، وينتمي هؤلاء المقاتلون لمجتمعات محافظة إلى حد يوصف بالراديكالية، خصوصا اتجاه المرأة، ويتعلق الأمر بقوميات الفلان والإفوغاس والعرب، التي لا ترى دورا للمرأة أصلا خارج بيتها.
وليس بمستساغ تحليليا وبناء على معطيات كثيرة، أن يقدم إياد اغ غالي، ومحمدو كوفا القادمين من أعماق تلك المجتمعات على إحداث ثورة من هذا القبيل.
بل إن إقصاء المرأة من الشأن العام للجماعة، واقتصار دورها على بيتها سبب بعض المتاعب للقوم، حين سيطروا على كبريات المدن في أزواد سنة 2012، إذ لم تكن معهم نساء جاهزات للتعاطي مع الأمور العامة المرتبطة بالشأن اليومي لمجتمع المدينة، بما في ذلك ـ على سبيل المثال ـ توقيف ورعاية النساء اللواتي كان يتم احتجازهن بسبب تهم مختلفة، فكان قادة الجماعة يلجؤون في الغالب إلى أخذ ضمانات من أوليائهن، وتعهد بإحضارهن عند الضرورة، مقابل إبقائهن في بيوت ذويهن.
انتحاريات خارج الصحراء
قد يقول قائل إن اعتماد الانتحاريات أمر معروف لدى "الجماعات الجهادية"، كما حصل مع "جماعة التوحيد والجهاد" في العراق أيام قيادة "أبو مصعب الزرقاوي" لها، حيث نفذت النساء عشرات العمليات الانتحارية منذ عام 2003، وورثت عنها جماعة "تنظيم الدولة الإسلامية" ذلك التقليد، وكما حصل مع "جماعة بوكو حرام" في شمال نيجيريا، التي شرعت في تنفيذ عمليات انتحارية بواسطة نساء ابتداء من عام 2015، وكما حصل مع بعض الشيشانيات في القوقاز، وحصل أيضا في باكستان.
غير أن كل تلك العمليات كانت تستهدف مواقع تناسب اقتحام النساء لها، فقد كان "أبو مصعب الزرقاوي" يستهدف بالانتحاريات اللواتي يرسلهن، تجمعات الشيعة العراقيين في الأسواق والأماكن العامة، وبعض معسكرات التجنيد وسط المدن، أما انتحاريات "بوكو حرام" فكن يستهدفن الأسواق الشعبية وأماكن التجمعات العامة، وعلى غرارهن كانت انتحاريات الشيشان يستهدفن المسارح العامة والأسواق، وكذلك في باكستان.
أما هجوم تمبكتو الأخير، فقد استهدف معسكرا مغلقا ومحصنا في عمق الصحراء خارج المدينة، يتطلب الوصول إليه مهارات تدريبية وقتالية عالية، وسرعة في التنفيذ وقدرة على المناورة، فقد وصلت المركبات المتفجرة إلى المطار عبر صحراء مفتوحة، وفي ظروف تتطلب من السرعة والكفاء القتالية، أكثر مما تتطلب من التمويه والتخفي، وكان الهدف معسكرات جل من فيها إن لم يكن كلهم رجال من العسكريين المدربين الجاهزين للقتال.
فليس بمستساغ عند من يعرف تلك الجماعات وطبيعة قادتها ونظرتهم لدور المرأة ـ سوءا انطلاقا من خلفياتهم الثقافية والاجتماعية، أو انطلاقا من ايديولوجيتهم العقدية ـ أن يستوعب احتمال إرسال امرأة في مهمة من هذا القبيل، فلو أن الهجوم استهدف معسكرا وسط المدينة أو جنودا في شارع عام أو سوق، أو سياح أو أهداف من هذا القبيل، لكان الأمر أقرب إلى المعقول، رغم عدم وجود مؤشرات على أن إياد أغ غالي ويحيى أبو الهمام ومحمدو كوفا، باتوا يرون ضرورة إقحام النساء في أتون المعركة الميدانية، كما يقحمون رجالهم وجنودهم.
ولأنه لا توجد معلومات تنفي بشكل قاطع ما قاله الجنرال الفرنسي، كما لم يقدم هو أي معلومات أو أدلة تؤكد ما توصل إليه من وجود انتحارية بين المهاجمين، فإن هذه القراءة تبقى مجرد تحليل يستنبط خلاصته من معطيات تاريخية ووقائع على الأرض، لم يلح في الأفق ما يشي بتغييرها، فتبقى هي الأصل إلى أن يثبت العكس، بدليل دامغ، أو يعلن القوم أنهم أرسلوا انتحارية، في تلك المهمة الصعبة، وإلى هدف كمعسكر مطار تبمكتو ذي التحصين العالي والحراسة المشددة.