
في لحظات التحوّل الكبرى، لا تُقاس قوة الدول بحدّة خطاباتها، ولا بصخب ساحاتها، بل بقدرتها على الجلوس إلى طاولة واحدة، والإنصات لبعضها بعضًا، حين تتكاثر الأسئلة وتتشابك المخاوف.
وحين تصل الأمور إلى هذا الحد، لا يعود الحوار ترفًا سياسيًا، ولا مناورة ظرفية، بل ضرورة وطنية وأخلاقية.
إن التحديات التي تواجه الدول اليوم لم تعد بسيطة ولا أحادية؛ فهي تمتد إلى وحدة المجتمع، وتماسك النسيج الاجتماعي، واستقرار الدولة، ومستقبل التنمية. وهي قضايا لا يمكن معالجتها بقرارات فوقية وحدها، ولا بخطاب أحادي، مهما كانت نواياه حسنة.
وهو ما جعل صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني يدعو إلى حوارٍ وطنيٍّ شامل، لا لأنّه مُجبَرٌ على ذلك، بل لأنّه يدرك، بحكمة القائد وبُعد نظره، أنَّ الأوطان لا تُدار بردود الأفعال، وإنما بالحكمة والاستشراف الاستراتيجي، وتقديم المصلحة العليا على كل اعتبار.
فالدعوة إلى الحوار، في مثل هذه السياقات، ليست علامة ضعف، بل تعبير عن ثقة الدولة في نفسها، وإيمانها بأن معالجة القضايا الكبرى لا تكون إلا بالعقل الجماعي، وبإشراك مختلف مكوّنات المجتمع في صياغة الحلول.
الحوار الشامل الذي نحتاجه ليس حوار المنتصر مع المهزوم، ولا حوار الإملاء والاشتراط، بل حوار الاعتراف المتبادل:
• اعترافٌ بالتعدّد داخل الوطن،
• واعترافٌ بالاختلاف باعتباره مصدرَ ثراءٍ لا تهديدًا،
• واعترافٌ بأن لا أحد يملك الحقيقة كاملة، ولا الوطن وحده.
لقد آن الأوان للانتقال من منطق من يربح النقاش إلى منطق كيف يربح الوطن.
فالوطن لا يُبنى بالضجيج، بل بالصبر؛ ولا يستقيم بالتخوين، بل بالثقة؛ ولا يُحمى بإشعال الحرائق، بل بإطفائها قبل أن تمتد.
«اختلافُ الرأي لا يُفسد للودّ قضية»
مقولة قديمة، لكنها لا تزال صالحة لكل زمان، حين تُفهم بعمق، لا كشعارٍ فارغ.
إن وقت الحكماء هو ذلك الزمن الذي يتراجع فيه الصوت العالي لصالح العقل الهادئ، ويُقدَّم فيه الوطن على الأشخاص، والمستقبل على الحسابات الضيقة.
أما اللعب بالنار، فقد لا يحرق صاحبه وحده، بل قد تمتد شرارته إلى الجميع، وحينها لا ينفع الندم.
الحوار الذي نريده لا يُقصي أحدًا، ولا يُقدّس أحدًا، ولا يحتكره تيار أو فئة.
إنه حوار من أجل دولة قوية بعدالتها، متماسكة بوحدة مجتمعها، مزدهرة بتنميتها، وآمنة بسلمها الأهلي.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها كثيرون:
الأوطان تُدار بالحكمة… لا بالانفعال.

