
منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945 عقب الحرب العالمية الثانية، شُرِّعت أعين شعوب العالم، خاصة في الجنوب العالمي، نحو هذه المؤسسة الدولية باعتبارها حامية للسلام، وضامنة لحقوق الشعوب، وداعمة لمسارات التنمية والاستقلال. لكن بعد أكثر من ثمانين عامًا، يثور التساؤل الحاد: هل كانت هذه المؤسسات أدوات للعدالة، أم مجرد واجهة ناعمة للهيمنة الإمبريالية الغربية؟ وهل أدّت دورها كآلية لضبط التوازن الدولي، أم كانت وسيلة لتكريس التفوق الجيوسياسي للغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة؟
هذا المقال يحاول تحليل هذه الإشكالية عبر ثلاثة محاور:
1. الخلفيات التاريخية والسياسية لإنشاء الأمم المتحدة.
2. استخدام المؤسسات الدولية كأداة للهيمنة الغربية.
3. مستقبل النظام الدولي في ظل صعود الصين وتحولات النظام العالمي.
أولاً: الأمم المتحدة... التأسيس والمضامين المخفية
1. سياق التأسيس:
تم تأسيس الأمم المتحدة في سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث خرجت قوى المنتصرين (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي، بريطانيا، فرنسا، الصين) لتحدد شكل النظام العالمي الجديد. وكان من اللافت أن مجلس الأمن، الهيئة الأعلى في المنظمة، قد خُصصت فيه "الفيتو" للدول الخمس دائمة العضوية، بما يعني فعليًا اعترافًا بشرعية اختلال موازين القوى، لا السعي لتعديلها.
2. من الحياد إلى الانحياز:
مع تصاعد الحرب الباردة، تحولت المنظمة الدولية إلى ساحة صراع أيديولوجي، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبحت شبه مُحتكرة من الولايات المتحدة، تُستخدم لشرعنة الحروب (كما في العراق 1991، وأفغانستان 2001)، أو تُعطل عندما تتعارض القرارات مع المصالح الأميركية (كما في القضية الفلسطينية).
---
ثانياً: آليات الهيمنة الغربية عبر النظام الدولي
1. الأدوات الناعمة: حقوق الإنسان، التنمية، الديمقراطية:
لطالما استخدمت القوى الغربية مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية كأدوات ضغط لفرض أجنداتها السياسية والاقتصادية على دول الجنوب. فتارة تُستخدم حقوق الإنسان كغطاء للتدخل في الشؤون الداخلية، وتارة تُوظف آليات التنمية كأداة لربط الدول النامية بالمؤسسات المالية الغربية (مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، والتي تفرض شروطًا تؤدي غالبًا إلى تآكل السيادة الوطنية وتكريس التبعية الاقتصادية.
2. القضية الفلسطينية كنموذج للانتقائية:
منذ النكبة عام 1948، صدرت عشرات القرارات الأممية التي تؤكد على حقوق الفلسطينيين، لكن لم يُنفذ منها شيء على الأرض، بل على العكس، دعمت الولايات المتحدة بلا تحفظ السياسات الإسرائيلية، سياسيًا وعسكريًا وماليًا، في انتهاك صارخ للقرارات الأممية. مما يجعل من الأمم المتحدة – في هذا السياق – غطاءً للظلم أكثر من كونها أداة للعدالة.
3. استخدام الأنظمة الوكيلة:
ضمن استراتيجية "التحكم عن بُعد"، دعمت القوى الغربية أنظمة عربية موالية تفتقد للشرعية الشعبية، تُحافظ على مصالح الغرب، وتمنع قيام أي مشروع وحدوي أو مقاوم أو نهضوي. وغالبًا ما تُكافأ هذه الأنظمة عبر الدعم السياسي والعسكري، وتُغضّ الأطراف الغربية الطرف عن انتهاكاتها.
ثالثاً: ما بعد انكشاف الخديعة... هل من بدائل؟
1. سقوط القناع:
التحولات الأخيرة في النظام العالمي، خاصة منذ الغزو الأميركي للعراق، والانسحاب المهين من أفغانستان، ثم دعم الغرب اللامحدود لإسرائيل في حروبها على غزة رغم جرائم الحرب، كل ذلك أدى إلى انكشاف خطير لحقيقة النظام الدولي. لم تعد أقنعة الليبرالية والديمقراطية قادرة على تغطية الوجه الاستعماري الجديد.
2. المقاومة والنمر من ورق:
رغم التفوق العسكري الهائل لإسرائيل، أثبتت حركات المقاومة أنها قادرة على زعزعة أمن هذا الكيان، وكشف ضعفه البنيوي. فإسرائيل ليست سوى "نمر من ورق"، يعتمد على الدعم الخارجي وغياب الوحدة العربية. كما أن صمود غزة، والرفض الشعبي للتطبيع في الشارع العربي، أعاد الأمل في إمكان التغيير.
3. الصين كبديل استراتيجي:
تشهد الصين صعودًا اقتصاديًا وعسكريًا غير مسبوق، مترافقة مع رؤية مختلفة للعلاقات الدولية، قائمة على "الاحترام المتبادل" و"عدم التدخل"، وهي رؤى تتناغم مع تطلعات العديد من دول الجنوب، خصوصًا الدول الإسلامية والعربية التي تضررت من سياسات الهيمنة الغربية. كما أن الصين تظهر احترامًا نسبيًا للخصوصيات الحضارية، بخلاف النموذج الغربي الذي يسعى للهيمنة الثقافية.
لكن لا بد من التحذير: الانتقال من تبعية إلى أخرى ليس حلًا. يجب بناء علاقة ندّية مع الصين أو أي شريك آخر، قائمة على المصالح المشتركة، لا على استبدال وصاية بوصاية.
خاتمة: نحو أفق جديد
لقد بات من الواضح أن النظام الدولي القائم لم يعد قادرًا على إخفاء عوراته. ومجرد الاعتماد على الغرب أو مؤسساته الدولية دون مراجعة هو ضرب من الانتحار السياسي. المطلوب اليوم ليس فقط فضح الخديعة، بل السعي لبناء نظام عربي وإسلامي جديد، يقوم على:
استعادة الإرادة السياسية المستقلة.
إنهاء حالة الانقسام العربي والإسلامي.
تبني مشروع حضاري نهضوي جامع.
تعزيز الشراكات الدولية البديلة (الصين، روسيا، أمريكا اللاتينية، إفريقيا).
دعم حركات المقاومة والتحرر، لا محاربتها.