علمتنا غزة / الدكتور أب ولد عمار

اثنين, 20/01/2025 - 12:28

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والذي بفضله وعونه انتهت هذه الحرب الظالمة علي إخوتنا في فلسطين الحبيبة. إن طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر من العام ٢٠٢٣ كان تاريخاً مفصليا وتحولا جوهريا في كفاح الشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني الغاصب؛ حيث أعدت المقاومة الفلسطينية عدتها {وأعدوا لهم ما استطتم من قوة..} الآية، وفي فجر ذلك اليوم المجيد كانت الصفعة التي لن ينساها المحتل الإسرائيلي؛ حيث تلقى ضربة في الصميم مزقت هيبته وكسرت عقيدته العسكرية المبنية على مقولة "الجيش الذي لا يقهر" و"جيش الدفاع" فقهر يوم السابع، ولم يدافع يوم السابع، فكان الجيش المقهور، والجيش الهارب، وعلى الأصح لم يكن له وجود في ذلك اليوم، وبعد أن أفاق من الصدمة ظل يلعق دماء الشهداء ويهدم البنى التحتية لأهلنا في غزة بأحدث التكنولوجيا الغربية لمدة 471 يوما، تؤازره قوى الشر وتمده بأحدث التكنولوجيا المدمرة، لكن ذلك زاد الغزيين قوة وبأسا وتوكلًا على الله، {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم..} الآية.

ولكن مهما كانت الخسائر البشرية والمادية ظلت معنويات الشعب الفلسطيني مرتفعة، والأهداف ساميَةً، واليقين بالنصر يسطر على القلوب وينسيها حجم الأضرار والآلام مهما عظمت.
 أما وقد توقفت الحرب فلم يكن للمحتل ما أراد؛ بل كانت له الخيبة والهزيمة، وكان رهين تلك الوعود والأهداف التي أطلقها وقت الصدمة وتعهد بها لمواطنيه، وشن الحرب من أجل تحقيقها؛ وهذه الأهداف هي: 

١- تحرير الرهائن بالقوة، هدف تم رسمه في الوهلة الأولى، واتضح أنه كذبة؛ إذ لم يتم تحريرهم بالضغط العسكري، ولله الحمد.
٢- سحق حماس، أحد أهداف الحرب، كذبة كبرى وأمنية لم تتحقق؛ فرغم الخسائر الجسيمة لا تزال حماس وبقية الفصائل تكبد العدو خسائر جمة؛ فهي بذلك لم تسحق ولله الحمد.
٣- الحديث عن اليوم التالي (لا تلعب حماس أي دور في المشهد بعد الحرب) هدف لم يتحقق؛ فحماس هي التي وقعت الاتفاق، وهي التي - باعتراف أعدائها- استطاعت ترميم صفوفها، وزادت من اكتتابها للمقاومين، وفي المقابل يمتنع الجنود الإسرائيليون عن الخدمة في غزة رغم التحفيزات المالية والمعنوي. 
٤- احتلال غزة بصفة دائمة، هدف رسمه المتطرفون (وكلهم متطرفون) وها هم ينسحبون وهم يجرون ذيل الهزيمة العسكرية والمعنوية، والعار يلاحقهم بتقتيلهم للأطفال والنساء والشيوخ، وتخريبهم للبنى التحتية، في مشهد لم يشهد العالم له مثيلا في التاريخ.
حقا إن الجيش الأكثر سفكا للدماء، والأقل أخلاقا، والأكثر عنفا، لم يحقق النصر، وكما هو معروف في الحروب لا يقاس النصر بمستوى التدمير والقتل والمبالغة في تعدي الحدود الإنسانية والأخلاقية والقانونية.. وإنما بقدر الإنجازات على أرض المعركة، الحالية والمستقبلية والاستراتيجية بعيدة الأمل؛ فكما شهد شاهد من الكيان الصهيوني "الحلم قد انتهى" وتكسر على مشارف غزة، ومعنويات الجيش والساسة والشعب في الحضيض، والحسابات الداخلية على مستوى الكيان بدأت إرهاصاتها، وكم كان رئيس وزراء الكيان (النتن آه) يتهرب من إنهاء الحرب خوفا مما ينتظره من ملاحقة داخلية نتيجة للإخفاقات الأمنية، وما ترتب عليها منذ السابع من أكتوبر 2023 وما بعده، والخارجية؛ حيث صدرت ضده مذكرة اعتقال دولية.
وهكذا بدا النصر وقت الاتفاق على وقف الحرب بشروط المفاوض الفلسطيني :

١- وقف الحرب 
٢- تبادل الأسرى 
٣- إدخال الوقود والمساعدات 
٤- الانسحاب من غزة 
وهكذا ستتم إعادة الإعمار وستنجب النساء أبطالاً من آباء قل نظيرهم في التاريخ وسجلت أسماؤهم بدماء الشهداء، وسيقمن بتربية الأجيال على أن القدس فلسطينيٌّ، وأن أرض فلسطين (كل فلسطين) مغتصبة منذ وعد بلفور المشؤوم، وأن الأجداد والآباء عاشوا واستشهدوا من أجلها، وأن الثأر حق مهما تأخر، وأنه لا يسقط بالتقادم، وأن الاستعمار مهما طال فعاقبته الزوال، وأن المحتل راحل لا محالة، وأن شتات اليهود الذين جمعوا من مختلف القارات سيعدون من حيث أتوا، وأن أبناء النكبة خططوا ونفذوا ملحمة طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر 2023، وأن الشعب الفلسطيني يموت قائده الأول في الميدان وأمام الجنود دفاعا عن العرض والوطن، وأن القادة السياسيين يستشهدون في كل مكان دفاعا عن القضية الفلسطينية. 
وقد دون التاريخ في سجله الذهبي بدماء الشهداء :

كتب التاريخ أن الأمة الإسلامية والعربية والمجتمع الدولي خذل غزة وأهلها، وأن غزة حرمت الماء والدواء والغذاء والوقود و…
كتب التاريخ أن دولا لا تشترك مع غزة؛ لا في الدين ولا في الهوية ولا في الجغرافيا، كانت إنسانية أكثر من الأشقاء في الدم والدين.
كتب التاريخ أن شعوبا غربية وشرقية كانت تخرج في المظاهرات وتعتصم في الساحات أكثر من الأشقاء في الدم والدين.
كتب التاريخ أن قادة دول أجنبية كانوا يألمون ويدافعون عن غزة في كل المحافل الدولية أكثر من الأشقاء في الدم والدين.
كتب التاريخ أن الحدود مع غزة أغلقت لكنها ظلت مفتوحة؛ بل ازداد فتحها، مع العدو الغاصب.
كتب التاريخ أن المقاومة اللبنانية ضحت بالغالي والنفيس من أجل غزة وأن تضحياتها أكثر من كل جيوش الأشقاء والجيران.
كتب التاريخ أن أهل اليمن معدن نفيس، وأن اليمن ضحي بكل غال ونفيس من أجل غزة أكثر من الجار ذي القربى والصاحب بالجنب.
كتب التاريخ أن المقاومة في العراق وسوريا ضحت بكل غال ونفيس من أجل غزة أكثر من الجيوش النظامية الجرارة المجهزة بالعدة والعتاد.
كتب التاريخ أن الميزانية التي أنفقت في أنفاق غزة خير وأكثر قيمة من تلك الميزانيات مجتمعة لكل الجيوش التي لا تسر صديقا ولا تغظ عدوا.
كتب التاريخ أن تسليح الجيوش بميزانيات ضخمة وعتاد متطور لا يراد للدفاع عن الوطن ولا عن العرض.
ولا عن بيضة الأمة وقيمها وهويتها.
كتب التاريخ أنّ كتائب القسام وبقية الفصائل الفلسطينيين كانوا نموذجا في الشجاعة والإقدام والتضحية أكثر من جيوش جرارة ذات كفاءة لو استخدمت.
كتب التاريخ أن الظالم مهما كانت قوته لا يمكنه الانتصار على صاحب الحق (غزة نموذجا) وأنه سيخرج مهزوما من دار أصحاب الحق.
كتب التاريخ أنه يحق لنا جميعا أن نفتخر بغزة ومقاومتها أكثر من فخرنا بالمؤسسات الديكورية الفارغة.
كتب التاريخ أن أحسن الجامعات والخطط العسكرية والاستخباراتية وفنون القتال والمباغتة سجلت تحت الملكية الخصوصية وبراعة الاختراع (هنا غزة) وأنها أحسن من  مخرجات الأكاديميات العسكرية ومنازلة الشعوب العزل.
كتب التاريخ أن الحاضنة الشعبية للمقاومة وتمسكها بأرضها كانا فريدين من نوعهما، وأنهما سر من أسرار النجاح.. (فلا نامت أعين الجبناء).
هكذا علمتنا غزة.

 

د.أب عمار
انواكشوط
٢٠/١/٢٠٢٥

تصفح أيضا...