في أحد الأيام المشمسة والمغبرة في العاصمة الموريتانية نواكشوط، قبل خمسين عاما، استقبل الشعب الموريتاني رئيس دولة الإمارات آنذاك الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، وشارك الجميعُ في هذا الاستقبال.
دقت النسوة الدفوف، ورقص الرجال راجلين وعلى ظهور العيس، وأنشد الشعراءُ القصائد.. تعددت أصناف ومشاهد الترحيب والمعنى واحد.
بعد نصف قرن على تلك الزيارة الميمونة، تذكر الموريتانيون دفء العلاقات الموريتانية الإماراتية وهم يشاهدون الأسبوع الماضي الوداعَ الذي خص به رئيسُ دولة الإمارات سمو الشيخ محمد بن زايد الرئيسَ الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، عَقِبَ زيارتِهِ التي شارك خلالها الشعبَ الإماراتي فرحته للمرة الثانية بمُناسبةِ احتفالات "مسيرة الاتحاد" التي تجمع قبائل الإمارات في منطقة الوثبة في أبوظبي، وما شهده الجميع من روح أخوة تطبع العلاقات الشخصية بين الرئيسين.
وتجلى ذلك في الصور المتعددة التي ظهرت لهما خلال متابعتهما للأنشطة والفعاليات الثقافية والتراثية والفنية المصاحبة لـ"مسيرة الاتحاد"، والتي شهدت هذا العام مشاركة موريتانية بعرض حمل اسم "روح الأخوة" ونال إعجاب الحاضرين، لتكون بذلك موريتانيا أول بلد يشارك بفرق تراثية في هذه الاحتفالات، التي يحضرها رئيس الدولة وعدد من كبار شيوخ البلد وقادته، وبعض الضيوف من الخارج.
في بروتوكولات بعض الدول، يبدو وداع زعيم لآخر أمراً اعتياديا. لكن في الأعراف الدبلوماسية الإماراتية، يمثل هذا المستوى قيمة كبرى للضيف، حين يودعه رئيس الدولة مصحوبا بوفد يضم خمسة من أبرز كبار مسؤولي البلد، وسفير الإمارات في موريتانيا. فضلا عن ذلك، كان المشهد مفعما بالاحترام والود والتقدير، تحيطه مشاعر الأخوة والصداقة مُضيفة عليه طابعا من الانسجام غير خفي، ما جعل الجميع يتذكر مشاهد زيارة الشيخ زايد رحمه الله لموريتانيا، في خُطوة شكلت علامة فارقة في علاقات البلدين، وكانت متميزة في كل تفاصيلها.
حينها تعرف الشيخ زايد رحمه الله على موريتانيا وأهلها وقادتها عن قرب، أحبهم واحترمهم ورأى فيهم نفسه وشعبه وبلده.
وصلت درجة الود الذي ساد الزيارة، أن لبس الشيخ زايد عمامة الرئيس المختار ولد داداه، الذي ارتدى بدوره غترة وعقال الشيخ زايد، في مشهد طغت عليه البهجة والحبور والاحترام الأخوي بين المرحومين.
لم تشهد الأعراف الدبلوماسية قبل تأسيس اتحاد الإمارات أو بعده، أن ارتدى الشيخ زايد رحمه الله زياً لبلد آخر أو اعتم بغير غترته.. وقد طاف العالم شرقا وغربا في سبيل ترسيخ مكانة دولته، فضلا عن الزيارات التي أداها قبل قيام الاتحاد والزيارات الخاصة طيلة حياته.
المشهد الذي خلدته زيارته لنواكشوط عام 1974 لم يتكرر في حياة الزعيم الراحل. ويعكس بشكل جليٍّ لا لبس فيه، تقديره لموريتانيا وأهلها والذي ظهر لاحقا في مناسبات عدة. وقبل ذلك بأربعة أشهر ، كان الرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد داداه رحمه الله في أول زيارة رسمية للإمارات بعد قيام الاتحاد، وشهدت إطلاق مسار حافل لعلاقات ستشهد تطورا كبيرا فيما بعد، عززته زيارة الشيخ زايد لنواكشوط، وأيضا زيارة أخرى أداها المختار ولد داداه لأبوظبي عام 1976. وقد عرف ولد داداه مبكرا أهمية أبوظبي ومكانتها، فزارها قبل ثلاث سنوات على قيام اتحاد الإمارات، وتحديدا عام 1968 بعد سنتين من تولي الشيخ زايد رحمه الله مقاليد حكم إمارة أبوظبي، وبعد ثمانية أعوام من استقلال موريتانيا. وشهد أنشطة رسمية، وزار برفقة الشيخ زايد "بنك أبوظبي الوطني" عند افتتاحه.
لبنة الأساس في العلاقات التي وضعها المرحومان الشيخ زايد والمختار ظل الجميع محافظا عليها، وأصبحت الإمارات من أكثر الدول التي تحتضن جالية منتجة تستفيد منها أغلب البيوت الموريتانية، وساهمت في أن تكون أحد الموارد للاقتصاد الموريتاني، كما أسهمت الإمارات في الكثير من المشاريع الاقتصادية والبنى التحتية التي كانت موريتانيا في أمس الحاجة إليها في ذلك الوقت.
ورغم تواصل العلاقات الموريتانية الإماراتية، فإن بعض الأنظمة الموريتانية المتعاقبة فرطت في الأساس القوي الذي بنيت عليه حتى وصل الرئيس الغزواني لسدة الحكم عام 2019 . وقد اعتمد ولد الشيخ الغزواني في مساره لتطوير العلاقات، على أسلوبه الشخصي المتميز ولباقته الدبلوماسية، وحنكته وخبرته في قضايا بلده والمنطقة. ليتلاقى ذلك مع حكمة ورزانة وطيبة وبساطة الشيخ محمد بن زايد، وتقديره لموريتانيا ومكانتها ودورها العربي والإفريقي.
لا يعلم بعضُ الأهل في موريتانيا أن أفعال ومآثر الشيخ زايد رحمه الله يتم تتبعها بشكل حثيث ودقيق من طرف أبنائه وجميع شعب الإمارات، فمن كان يحظى بتقديره، تظل تلك المشاعر الخاصة به محفوظةً في ذاكرة الإمارات شعبا وقيادة.
أمدت الإمارات موريتانيا بتمويلات للمشروعات التنموية الكبرى في مجالات التعليم والمواصلات والطاقة والزراعة والمعادن وغيرها، ووقفت معها في أوقات صعبة، ولم تأبه لبعض المواقف التي كادت تعكر صفو العلاقات.
واليوم ارتقت العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية إلى مستويات رفيعة، يطبعها الانسجام في المواقف الدبلوماسية، وزيادة الاستثمارات وحجم التصدير والتبادل التجاري، لتصبح الإمارات شريكا رئيسا لموريتانيا على المستويات كافة، ومنها التعاون الثقافي والتبادل العلمي ومكافحة الارهاب.
ورغم الشراكة المتينة بين البلدين، فإن الشعب الموريتاني لا يزال يطمح لتطوير هذه الشراكة إلى مستوى اقتصادي يكون في مكانةِ العلاقاتِ المتميزة التي بلغت هذه الأيام بين الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني ورئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد المستوى الذي أسَّس له القائدانِ رحمهما الله الشيخ زايد والمختار ولد داداه. فالشعب الموريتاني متفائل جدا بالعلاقات الشخصية بين الرئيسين، ويضع ثقل لومه على عاتق الحكومة الموريتانية لحثها على الاستفادة من المكاسب التي استطاع الرئيس الغزواني تحقيقَها من خلال نجاحه في الوصول بالعلاقات لهذا المستوى.