اعتمدت منظمة اليونسيكو مؤخرا ملحمة "صمبا كلادجيكي" باسم موريتانيا، ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية، فماذا نعرف عن هذا الملحمة التاريخية؟
يسلط هذا المقال الذي نشره الكاتب والشاعر (الشيخ نوح) قبل سنوات في مجلة "الثقافة الموريتانية" الضوء على هذه الملحمة.
صمبا كلادجيكي.. بطل الملحمة الأشهر في الفلكلور المحكي للفلان!
لعل من أشهر الملاحم في التاريخ المكتوب والمروي للفلان (البولار، أو الفلاتة) ملحمة صمبا كلادْجيكي (صمبا كلادْجو دْجيكي حسب بعض الروايات)، وقد كتب عنها دارسون أنثروبولوجيون مهتمون بتاريخ وثقافة الفلان، كما أبّدتها حناجر الفنانين التقليديين والحكائين على إيقاع الآلة الوترية الأكثر شهرة في التراث الموسيقي الفلاني "هُدّوhoddou "، والتي توازيها في السياق الثقافي الناطق بالحسانية آلة "التيدنيت".
تتعدد روايات الملحمة في بعض جوانبها التفصيلية وتنويعاتها، ولكن أحداثها في المجمل تدور حول بطل يحمل الاسم كان -حسب إحدى الروايات- يعيش في قرية من قرى منطقة "فوتا تورو"* على ضفة النهر، قبل أن يعيش ذلك الحدث الذي سيغير حياته بشكل راديكالي ونهائي، عندما شاعت بين الناس قصة وحش قيل إنه يهدد حياة الساكنة ويفترس كل من أدركه الليل خارج القرية.
انطلاقا من هذه اللحظة المتوترة تبدأ تنبثق بوادر بطولة صمبا كلادْجيكي الخارقة وتبدأ إرهاصات اختلافه في الظهور، إذ سيشاهَد وهو يقوم ببري النبال وينهمك بجدية وإصرار في صناعة أسلحة أخرى مرتبطة بتلك الحقبة، في حين لم يتجاوز وقتها السادسة من عمره.
لقد كان طموح الصبي صمبا كبيرا إذ كانت تشحذه همة عليا وعينه على الجائزة التي أعلن عنها الملك الفوتاوي، والتي وصلت أخبارها إلى كافة أنحاء المملكة، فقد وعد الملك بأنه سيزوج ابنته لأي شخص ينجح في القضاء على الوحش الذي روّع الآمنين.
هكذا، وسعيا إلى المجد وطمعا في الجائزة، خرج صمبا ذات ليلة مدججا بأسلحته ومهاراته القتالية بعد تدريبات مطولة، في مهمة جادة لقتل الوحش.
كانت المهمة صعبة جدا، كما سلم الجميع بذلك، لكنه نجح في هذا التحدي فعلا. وكدليل محسوس على ما قام به من إنجاز تام للمهمة، قطع صمبا كلادجيكي أحد أطراف الوحش وحمله إلى الملك.
كافأه الملك، وزوّجه ابنته، ثم لاحقا ورث صمبا العرش بعد وفاة الملك، ليصبح أحد أهم الأبطال التاريخيين المخلدين في الأيقونات والأغاني الشعبية والملاحم عند الفلان.
غير أن صمبا كلادجيكي في رواية أخرى وسردية مغايرة للأولى ليس سوى ضحية لاغتصاب السلطة من قبل عمه، فاضطر إلى السفر سبع سنوات خارج بلدته في منطقة فوتا تورو، ووصل إلى إحدى المناطق التابعة لمملكة المغرب في تطوافه على إثر إحباطه الكبير من استعادة عرش أبيه من يد عمه الذي جرده من صفاته الأميرية.
وتقول هذه السردية إنه بينما كان صمبا يتجول في هذه المناطق التابعة لأحد ملوك المغرب، عرّج على عجوز في سقيفتها وقد استبد به العطش، عندما طلب ماء لتبريد غلواء العطش جلبت له العجوز جرعة من ماء ملوث، وأخبرته العجوز، حين استفسر عن سبب ذلك، أن كل أرجاء المنطقة تشكو من ندرة في الماء بسبب سيطرة أحد الوحوش على الينبوع الوحيد (هناك من قال إنه أسد بينما ذهب آخرون إلى أنه تمساح)، مضيفة أن الملك قد رصد جائزة كبرى لمن يحرر الينبوع من سطوة الوحش الذي يطلب فتاة ليقتات بها كل ثلاثة أسابيع.
دخل البطل صمبا كلادجيكي في مواجهة دموية مع الوحش، ثم تغلب عليه أخيرا، وقطع أحد أطرافه وسعى بها إلى الملك طمعا في الجائزة المذكورة، إلا أن بعض حاشية الملك، وبدافع الحسد لهذا الغريب الذي انتصر على كل أهل المنطقة، وأثبت قدرته وشجاعته الفائقة عبر التخلص من الوحش، كادوا له وأوعزوا إلى الملك المسمى في الملحمة عالي بن زكاري بضرورة تجريب صمبا كلادْجيكي بمهمة ثانية، تتمثل في صد هجوم جيوش ملك ماسينا المدعو بيراما غوري.
كان هدف حاشية الملك التخلص من هذا الغريب الباحث عن المجد، غير أنه بعكس المتوقع انتصر صمبا كلادجيكي على جيش ماسينا انتصارا مدويا، فلم يكن أمام الملك سوى أن يفي بوعده. طلب منه صمبا أن يجعل جائزته جيشا ومؤونة للمقاتلين فكان له ذلك. وعاد به إلى فوتا تورو واستعاد عرشه المغتصب من قبل عمه.
ويرى بعض المؤرخين المهتمين بتاريخ المنطقة وبجينيالوجيا شعوبها أن شخصية صمبا كلادجيكي، رغم ما شابها من أسطرة، إلا أنها شخصية حقيقية تنتمي إلى سلالة "الدينيانكوبي"، وهي سلالة حكمت منطقة فوتا تورو منذ القرن السادس عشر، مؤكدين أنه حكم على مدى 10 سنوات بعد والده كلادجيكي، وبذلك - حسب هذه السردية- يكون صمبا كلادجيكي سليل "كولي تنْكلّه" مؤسس مملكة الدينيانكوبي في القرن السادس عشر، والتي أطاحت بها لاحقا الثورة الإمامية لتورودو على يد الإمام عبد القادر كَنْ عام 1776.
هذه الثورة التي حرّمت الاسترقاق في المجتمع الفلاني (البولاري) كما حرمت بيع الرقيق إلى الأوروبيين، وصاغت مجتمع الفلان وفق تركيبة وتراتبية جديدة ومختلفة عن سابقتها تماما.
ومهما يكن من أمر هذا البطل الذي خلدته الملاحم التي اختلط فيها الواقع بالخيال والأسطورة بالتاريخ، فإن ملحمة صمبا كلادجيكي تظل إحدى أهم وأشهر الملاحم في تاريخ الفلان التي تحتفي ببطل ما زال يشكل قيمة تاريخية وإرثا ثقافيا ومصدرا لإلهام نجده ماثلا في الفن والموسيقى والأدب!
*هناك ثلاث فوتات (فوتا تورو وهي في الشريط النهري على الضفتين السنغالية والموريتانية، وفوتا ماسينا في مالي، وفوتا جالون في غينيا).