تابعت مثل غيري خطاب فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بمناسبة الذكرى 64 لعيد الاستقلال الوطني. وإني إذ أرفع لفخامته وحكومته وللشعب الموريتاني خالص التهاني والتبريكات، لأرجو أن يكون هذا الخطاب بداية إصلاح سياسي فعلي يُنهي حالة الرتابة والركود التي تعيشها البلاد. نعم، الرتابة .. هي أقل ما يمكن أن توصف به الحالة السياسية الراهنة، حيث لا معارضة منتظمة ولا موالاة منضبطة ولا وسط نشيط. ومن فرط الجمود السائد يخال إليك أن عقارب الساعة توقفت، وأن الأحزاب وضعت على الصامت.
من الواضح أن فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أربك الجميع منذ توليه للحكم. فلا المعارضة الراديكالية ولا المعارضة المعتدلة ولاحتى القوى الموالية عرفت كيف تتعامل مع رزانة الرجل وهدوئه وجاذبيته ومزاجه و قدرته على الاستيعاب والاحتواء. ومن الواضح كذلك أنه حقق من خلال التهدئة والاسترضاء وجبر الخواطر كبح جماح المعارضة والموالاة معا خالقا بذلك جوا من الملل والتكرار.
وتنقسم الآراء حول هذا الوضع ما بين مؤيد ومتحفظ؛ بين من يراه ظاهرة صحية تؤشر لحالة "توافق" و"إجماع"، وبين من يراه حالة مرَضِية تؤشر إلى "الميوعة" و"عدم الاكتراث".
أين الحقيقة في هذا؟ والله لا أدري، غير أني أقرب إلى الرأي القائل بأنّ "الإجماع" في السياسة وهمٌ أو استثناء على الأقل، وأن لا سياسة من دون "خصم". ولا حركة من دون صراع "ضدين"، أو كما قال الفيلسوف اليوناني "هيراقليطس" (Héraclite): "كل تغيير يولد من الخلاف".
وعلى هذا الأساس، لا بد من تمايز صريح وخط فاصل بين أغلبية رئاسية متحفزة ومعارضة صارمة. وهذا مبدأ ثابت من مبادئ الديموقراطية لا يمكن بحال من الأحوال اعتباره دعوة أو تشجيعاً للتفرقة والانقسام، وإنما هو تأكيد على أن الخِلاف هو أساس السياسة، وليس الإجماع أبدًا. السياسة في النهاية عِراكٌ وخِصامٌ ومُشاكسة. فالمجال السياسي الديمقراطي لا يقوم على التوافق المطلق، كما لا يقوم على التباغض والعداء؛ بل يقوم على التنازع والتنافس في إطار مؤسسات تسمح بذلك وتضمن سَيره بانتظام. وفي حال لم يتم استيفاء هذه الشروط، تجف ينابيع الحياة السياسية و تصدأ، فيكون ذلك قاتلاً للآلية الديمقراطية التي يطالب بها الجميع. ومن أبرز أسباب الفراغ وأشدها ضررا على اللعبة الديموقراطية هو مفهوم "حزب الدولة" أو "حزب الرئيس" السائد عندنا.
* حزب الدولة وحزب الرئيس
بالعودة إلى التاريخ، وتحديدا إلى سنوات الاستقلال ، نجد أن فكرة حزب الرئيس نشأت وترسخت عبر العقود. ونكتشف أن الحزب الذي نصبه الرئيس المختار ولد داداه (رحمه الله) ما زال قائما حتى الآن، يتوارثه الرؤساء المنتخبون الواحد بعد الآخر. يتغير أسم الحزب وشكله مع أي رئيس جديد دون أن تتغير ماهيته. وفي الأحكام الاستثنائية حيث لا يوجد رئيس منتخب يضع الحزب نفسه تلقائيا تحت تصرف رأس النظام المتغلب. وهكذا - بعد انقلاب 1978 - تحول "حزب الشعب" إلى "هياكل تهذيب الجماهير" في عهد الرئيس محمد خونه ولد هيداله. وفي العام 1991 دخلت البلاد عهد "التعددية" في ظل حكم الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطائع الذي وضع نظاماً صمد حتى الآن في وجه العواصف والأمواج. يقوم هذا النظام على مبدأ "التعددية" الدستورية مع الاتكال والتعويل على حزب مهيمن تدور حوله الحياة السياسية كلها. تحولت الهياكل إلى الحرب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي (شعبيا حزب الرئيس وحزب الدولة). ثم سقط الرئيس معاوية وغادر المشهد، فتحول الحزب الجمهوري إلى "منسقية وطنية للمستقلين" في خدمة المجلس العسكري للديموقراطية والعدالة. وما لبثت "المنسقية" أن تحولت هي الأخرى إلى حزب عادل في عهد الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله (رحمه الله)، ثم إلى الاتحاد من أجل الجمهورية في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، انتهاء بحزب "الإنصاف" الذي يعيد إنتاج الحزب الجمهوري 19 سنة بعد رحيله. يعيد منهجه وأساليبه وصراعاته الداخلية المثيرة للفتن وكرنفالاته وتدافع أهله وسيطرته على المؤسسات كافة. وغدًا بحول الله يأتي رئيس جديد ويتحول معه "الإنصاف" إلى حزب جديد. المرجعية هنا عبارة عن الرئيس، والرئيس عبارة عن المرجعية. والإشكالية في هذا ليست فقط كون "حزب الدولة" يُفسد اللعبة الديموقراطية بل في كونه لا يؤتمن على الرئيس إلاّ ما دام عليه قائما.
* الطريق إلى الإصلاح
بناء على ما تقدم:
- يتعين على فخامة رئيس الجمهورية بناء هوية سياسية جماعية تعبر عن نفسه هو، وعن رؤيته بدل الاعتماد على أداة موروثة عن الرؤساء السابقين، وغير قادرة على الخلق والابتكار والتحرر من أغلال التكرار.
- ويمر ذلك بالتخلي عن فكرة "حزب الدولة" التي لا تبتعد كثيرا عن نظام "الحزب الواحد". وقد أثبتت التجربة استحالة العمل السياسي المجدي مع وجود حزب يجسد سلطة الدولة أو دولة تتماهى مع حزب.
- وأنوه إلى صعوبة المسألة نظرا لرسوخ فكرة حزب الرئيس في العقليات رسوخ "حاشية" الأمير، و "رهط" السلطان، وجماعة الشِّيخ، والتسابق على "الغنيمة"، إلخ.
- الإسراع بالمصادقة على قانون جديد للأحزاب السياسة يجمع بين حرية التنظيم من جهة، والقدرة والجدارة بالمشاركة من جهة أخرى.
- ويتمثل ذلك في منح ترخيص مؤقت لجميع الطلبات العالقة لدى الجهة المختصة على أن يكون ترخيصا نهائيا بعد فترة يحددها القانون مقابل الوفاء بدفتر التزامات يؤكد على الوجود الفعلي للحزب.
- ومن المهم التبويب في القانون على "الديمقراطية" داخل الأحزاب. كيف لحزب غير ديموقراطي في برنامجه وتنظيمه واتخاذ قرارته أن يكون شريكا في اللعبة الديموقراطية؟ ينبغي أن يفرض على الأحزاب وجود مقرات واحترام دورية الموتمرات وهيئات منتخبة بالاقتراع سري.
- استئناف الحوار الذي تم التفاوض بشأنه ورُسمت خطوطه ومحاوره وجدول أعماله باتفاق الجميع، والذي تم تعليقه في 2 يونيو 2022. ينبغي، كسبا للوقت، استئنافه عند النقطة التي توقف عندها.
- تنظيم انتخابات برلمانية ومحلية بعد منح التراخيص النهائية للأحزاب 2027، بالتزامن مع منتصف المأمورية الرئاسية للفصل بين الاستحقاقات وإشراك الطيف السياسي الجديد.
كل عام والوطن وأهله بخير،
فرج الله كربة إخوتنا في غزة.
الخميس 28 نوفمبر 2024
محمد فال ولد بَلال