قرّرت اليوم أن أبوح لكم بسِر، وهو أنّي تابعتُ بين 1998-2000 دورات تكوينيّة متفاوتة في معهد فرنسي للدراسات الاستراتيجية يهتم بإعداد وتخريج القيادات السياسية. وكنت حينئذ نائبا في الجمعية الوطنية وعضوا في البرلمان المشترك بين أروبا وإفريقيا والكراييب والمحيط الهادئ (UE-ACP). وفوجئتُ بأنّ برنامج الإعداد يتضمّن مادّة "البروتوكول" (التشريفات)، وتلقّيتُ فيه دروسا مهمّة عن السلوك والأداء، وآداب المجلس، واحترام الذّوق العام آخذا في الاعتبار اختلاف التقاليد والعادات والثقافات، وصَون المظاهِر، وطريقة اختيار الملابس، وآداب الأكل والشراب والكلام والابتسام، إلخ،،، ولكنّي فوجئتُ أكثَر عندما وجَدتُ برنامج الإعداد يتضمن مادّة مستقِلة بعنوان "التصفيق": كيف ومتى وأين يكون التّصفيق؟
وتعلمتُ منه أنّ التصفيق أنواع، منها: التصفيق الترحيبي عند بداية دخول فخامة الرئيس، والتصفيق المستمر أثناء الخطاب كلما توقف فخامته عن الكلام ليلتقِط أنفاسه، والتصفيق المبرمج الذي يُطلق بالاتفاق المسبق مع قائد "جوق المصفقين" من داخل القاعة، وتصفيق التحية بعد انتهاء الحفل ونزول الرئيس من المِنصّة... هذه أنواع من التصفيق "السياسي"، وتختلف عن التصفيق "الفنّي" والمنظّم، أي المَدُّوب، الذي يطلق مع رقصات "اكْنُ" مثلا، و"لبْليْدَه"، و"الشّرعَ" و"الجَّرْ"، و"بَنْگَه"، إلخ،،، وتعلمتُ أنّ المستوى الثقافي والاجتماعي يحدّد أسلوب التصفيق، فسيدات المجتمع الراقي ذوات "الحَنّاء" الجميلة يصفقن بأطراف أصابعهن على عكس الشرائح الشعبية التي تصفّق بالكفّين، وتصفيق المثقّف يختلف عن تصفيق الجاهل، وتصفيق الظرفاء يختلف عن تصفيق "الثّقلاء"، وتصفيق المرأة يختلف عن تصفيق الرجل،،، أمّا تصفيق المشاهير والساسة فهو يختلف تماماً عن الكُل، حيث تحكمه قواعِد ابروتكوليّة وآداب معيّنة على صلة وثيقة بالأناقة واحترام الجمهور. ومن باب "اخروجُ"، أعتقد أنّ الرئيس معاوية كان أكثر أناقة وأجمل تصفيقات من الرئيس عزيز؛ والرئيس عزيز أكثر أناقة من الرئيس هَيداله، حفظ الله الجميع.
وممّا أذكره من تلك الدروس المهمة أنّ التصفيق له تاريخ عريق يرجع إلى العروض المسرحية الإغريقية، وكان في بدايته حرّا وصادقا؛ ولكنّه سرعان ما تخلّى عن العاطفة والتِّلقائيّة والصّدق، وصار "مادّة" تحتَ الطلب منذ أن انتشرت المسارح الفنية والسياسية واحتدمَ الصّراع بين الفِرق والأحزاب، وظهرت "جوقات المصفقين" التي تمتهِن العمل لحساب الأطراف المتنافسة بغرض دفع الجماهير إلى التصفيق لما تقَدِّمه، مقابل مبلغ من المال،،، تصفيقٌ مُوَجّهٌ ومصنوعٌ، لا يأتي في معظم الأحيان بدافع من الصدق والإعجاب الحقيقي، وإنما بدافع الطمع والخَوف. ويذهب بعض الخبراء في علم الدلالة إلى وجود ارتباط قوي بين شيوع التصفيق داخل أي مجتمع من المجتمعات وبين تراجع قيمة "العقل" وتنامي ثقافة "القَطيع" في صفوفه وأعماقه.
ويجرُّني هذا إلى القول بأنّ ما يجري حالا في بلدنا وما يتمّ الإعداد له من مسيرات ومبادرات مطالبة بمأمورية ثالثة يتجاوز حدّ التصفيق العادي كما ألفناه عند "الجوقات" المتعاقبة منذ الاستعمار إلى الآن مرورا بعهد الحزب الواحد، والهياكل، والحزب الجمهوري، والحزب "الزّيْدَني" الحالي في طوره الأول والثاني، ولجنة تشخيص الواقع وتفعيل الهيئات،،، ما يجري الآن أقرب إلى "العِبادَة" منه إلى "السياسة". وكلنا نعلم أنّ التصفيق كان يُستخدَم في فترة من فترات الجاهلية كنمط من أنماط "العبادة" عند الطواف بالكعبة مُقترناً بالصّفير، حيث قال تعالى: وما كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً (الأنفال & 35)؛ ومُكاء تعني الصّفير؛ أما التصدية فتعني التصفيق (تفسير الطبري).
وبناء عليه، فإنّي أقترحُ على الرئيس عزيز وموالاته ومعارضته بكل أطيافها والكتاب والمدَوّنين أن اترُكوا هؤلاء يمارسون طقوسهم و"عباداتهم"؛ اتركوهم وشأنهم، فليطوفوا بالقصر مكاء وتصديّة؛ لا تلتفِتوا إليهم ولا تهتمّوا بضجيجهم وهتافهم ! ركِّزوا جهودكم وتفكيركم على أحسن وأفضل طريقة تمَكّنكم من تحقيق تناوب آمن وسلس على السلطة 2019. إنّهم يريدون إلهاءكم عن الهدف الأسمى وجرّكم إلى معارك جانبيّة ونقاشات بيزنطيّة... وإنّ لهم لأجرا!