كانت الفترة الفاصلة ما بين منتصف عام 2005 (هجوم لمغيطي) ونهاية عام 2011، (اختطاف الدركي من عدل بكرو) مسرحا زمانيا لمواجهة مفتوحة بين الدولة الموريتانية، ومسلحي تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي (الجماعة السلفية للدعوة والقتال سابقا) الذين ينشطون في صحراء شمال مالي (أزواد)، وقد شهدت تلك السنوات معارك دامية بين الطرفين، وكمائن وهجمات انتحارية، بعضها على الأراضي الموريتانية وبعضها داخل الأراضي المالية، وكانت المقاربة الموريتانية في المنطلق تقوم على مواجهة أمنية وعسكرية وقضائية متصاعدة، اتجاه الخطر الكامن في تلال وجبال ووهاد أزواد، وتدخلت القوات الموريتانية في عمق الأراضي المالية وخاضت مواجهات عنيفة مع المسلحين "الجهاديين" هناك، كما تعرضت لكمائن وهجمات انتحارية في الغلاوية وتورين والنعمة وباسكنو، واختطف عدد من الرعايا الغربيين وتعرض بعضهم للاغتيال، ونشطت شرطة مكافحة الإرهاب في ملاحقة واعتقال من يشتبه في علاقتهم بتنظيم القاعدة، وأصدرت المحكمة الجنائية بنواكشوط عشرات الأحكام بالإعدام والسجن على متهمين بالمشاركة في عمليات ضد الجيش الموريتاني وقوات الأمن، أو الانتماء لتلك الجماعة.
وفي السنوات الأخيرة من عمر المواجهة المفتوحة، سعت السلطات الموريتانية إلى محاولة تعزيز مقاربتها في تلك الحرب، عبر فتح جبهة أخرى تمثلت في إطلاق حوار فكري وفقهي، مع عشرات المتهمين بالانتماء لتنظيم القاعدة في السجون الموريتانية، وهو الحوار الذي قاده عدد من العلماء برعاية الحكومة، وأسفر عن صدور بيان من داخل السجن وقعه عشرات السجناء، معلنين من خلاله نبذ العنف ورفض المواجهة العسكرية مع الدولة، وانتهى الأمر بالإفراج عن معظمهم ومنح الراغبين منهم، تمويلات وقروضا لإطلاق مشاريع تجارية والاندماج في المجتمع.
كما عمدت إلى تعزيز مقاربتها الأمنية والعسكرية، عبر إجراءات الرفع من جاهزية الجيش وتعزيز وسائله وقدراته، وترسيم نقاط عبور إلى الأراضي الموريتانية تخضع للرقابة الأمنية والعسكرية، وتحديد مناطق عسكرية حدودية مغلقة، فضلا عن إجراءات أخرى، قد يكون الخبراء العسكريون والأمنيون أدرى بتفاصيلها والنتائج التي أفضت إليها.
ولم يكن للمسلحين "الجهاديين" أي تمركز أو وجود على الأراضي الموريتانية، فقد كانوا ينطلقون من الشمال المالي (أزواد) لتنفيذ هجماتهم داخل العمق الموريتاني، ثم يعودون إلى منطلقهم، وهي منطقة تشكل تاريخيا حديقة خلفية لموريتانيا، وتتسم العلاقة معها بالكثير من التداخل الديمغرافي والقبلي والمصالحي، لذلك عمدت موريتانيا حيال الوضع في تلك المنطقة، إلى انتهاج استراتيجية تقوم على ضرورة الفصل بين حملة السلاح فيها، باعتبار أن جزءا كبيرا منهم (الطوارق والعرب)، أصحاب قضية داخلية تخص الشأن المالي، وخلافهم مع الحكومة المالية يتعلق بمطالب تاريخية، ومظالم واقعية، طالما قاتلوا من أجلها، منذ استقلال جمهورية مالي مطلع ستينيات القرن الماضي، والماليون هم وحدهم المسؤولون عن حل الأزمة معهم، وأي دور للجيران ينبغي أن يقتصر على الوساطة والتسهيل، فضلا عن أن أحد المكونين الرئيسيين في أزواد (العرب)، له امتدادات عرقية داخل موريتانيا، وهو ما يزيد من حساسية العلاقة معهم، إضافة إلى الأواصر الوثيقة والمتداخلة والتاريخية مع المكون الثاني (الطوارق).
أما القسم الآخر من المسلحين فهم "الجهاديون" وقد اختلطوا بالسكان، وباتت لهم هناك حاضنة شعبية لا مراء فيها، وانخرط فيهم العشرات بل المئات من أبناء القبائل الأزوادية، واحتفظ بعضهم بخاصية المحلية (أنصار الدين، وماسينا)، ولن تكون محاربتهم وفصلهم عن السكان بالأمر السهل الذي لا يتطلب سوى خطة عسكرية صماء، تعتمد على جيوش من الغرباء، لا تسمع للسكان مطلبا، ولا تلقي لمظالمهم بالا، ولا تراعي حقيقة أوضاعهم الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والأمنية المتدهورة.
ما بعد 2012
وفي سنة 2012، اختلط حابل المسلحين (الجهاديين، والأزواديين) بنابلهم، وسيطروا جميعا على كامل منطقة أزواد، لكن الجماعات "الجهادية" كانت لها اليد الطولى، ومسلحوها هم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة، والمسيطرون على كبريات المدن، فأعلنت فرنسا النفير العام واستحثت حلفاءها في المنطقة، ودقت طبول الحرب، وسارعت بقواتها إلى مالي بمعية جيوش بعض البلدان الإفريقية المجاورة، وكان الأمل يحدو الفرنسيين ـ يومها ـ في دخول موريتانيا على مسرح الأحداث، وإقحام الجيش الموريتاني في المعركة ضد "السلفيين الجهاديين"، غير أن تجاهل الإدارة الفرنسية (فراسوا أولاند) للرؤية الموريتانية، وإعراضها عن الطرح الذي قدمته نواكشوط لمواجهة الأزمة المعقدة والمتنامية في الشمال المالي، واستعجال باريس للحرب بإملاء منها وحدها، فضلا عن اشتراطات قدمتها السلطات الانتقالية حينها في بامكو، ساهمت كلها في دفع الحكومة الموريتانية إلى الامتناع عن المشاركة في الحرب، فتفادت بذلك الانزلاق نحو ما بات يعرف بالمستنقع المالي، الذي أغرق القوات الدولية (المنيسما)، ويسعى الفرنسيون اليوم للخروج من وحله، بل وأكثر من ذلك جاء الرد عمليا من الجماعات "الجهادية"، بوقف كل عملياتها المسلحة على الأراضي الموريتانية، تطبيقا لتصريحات قادتها قبل انطلاق الحرب، حين أعلنوا انتهاجهم "سياسة المتاركة" (يترك كل طرف الطرف الآخر)، اتجاه أي بلد يتجنب دخول المعركة الفرنسية ضدهم، مقابل الوعيد باستهداف الدول التي تشارك في تلك الحرب، وهو ما نفذه عناصرهم في النيجر وبركنفاصو وكوت ديفوار، وكانت موريتانيا بمنجاة منه.
كما أن موريتانيا انطلقت في رؤيتها للوضع في شمال مالي، من تجربتها في الحرب مع مسلحي القاعدة خلال السنوات الماضية، إذ ترى أنها حين قررت المواجهة معهم داخل الأراضي المالية، ما بين 2009 و2011، تعرضت لمؤامرة وخذلان من القريب قبل البعيد، بما في ذلك الحكومة المالية، التي اكتفت باستضافة المعارك على أراضها، والتفرج على المواجهة ولو من العدوة الدنيا، بل إن المعركة التي خاضها الجيش الموريتاني في غابة "وقادو" ضد المسلحين "الجهاديين" (يونيو 2011) شكلت قناعة حاسمة لدى الموريتانيين أن الرهان على القوات المالية يومها خاسر لا محالة، فقد انسحبت القوات المالية قبل ساعات من بدء المعركة تاركة الوحدة الموريتانية تخوض المواجهة بمفردها، وأكثر من ذلك كانت خطة المعركة بين يدي المسلحين "الجهاديين" خلال ساعات الصباح، بينما اكتفى الفرنسيون طيلة سنوات المواجهة بين موريتانيا والقاعدة بدعم استخباراتني خجول، أخفى من المعلومات أكثر مما أعطى، وهو ما جعل نواكشوط تتأنى في خوض حرب جديدة، ترى أن شروط حسمها لم تكتمل، وتحالفاتها لم تبن بمرصوص الثقة الكافية، بسبب هشاشة المنظومات العسكرية والأمنية لبعض أطرافها، وسهولة اختراقها من طرف "الجهاديين"، ورفض أطراف أخرى (يتحكم فيها مزاج الرأي العام الفرنسي) تقديم ضمانات كافية على عدم الانسحاب أو تغيير الاستراتيجية في اللحظات الحرجة.
حصاد الحرب
وخلال السنوات الخمس المنصرمة من عمر الحرب، أثبتت الأحداث أن امتناع الحكومة الموريتانية عن خوض غمار تلك المواجهة ـ التي خطط لها الفرنسيون وفقا لرؤية قاصرة، تجهل أو تتجاهل معطيات الواقع ورهانات التحدي ـ كان صائبا، وأن المقاربة الفرنسية التي استعجلت الحرب، وأضرمت أوراها دون رؤية لنهاية النفق، قادت المنطقة إلى مزيد من التأزيم والاحتراب، وشكلت صبا للزيت على النار، فانفجرت مواجهات جديدة لكن هذه المرة في عمق الوسط المالي، وكان طرفها الآخر قومية ظلت خلال العقود الماضية بمنأى عن الصراع بين بامكو من جهة، والطوارق والعرب من جهة أخرى، ويتعلق الأمر بقومية "الفلان"، وهي مكونة من الشعب المالي تتسم علاقتها بالحساسية مع موريتانيا، نظرا لوجود امتدادات عرقية لها في داخل البلاد، وبات حجم المواجهة وكثافة النيران في الوسط المالي، أشد ضراوة وألفح لهيبا مما عليه الوضع في الشمال المشتعل أصلا، وعلى الحدود الشرقية لمسرح المواجهة، أعلن في خضم الحرب الفرنسية عن ميلاد تنظيم "جهادي" آخر هو "جماعة أنصار الإسلام في بركنفاصو"، وشكلت امتدادا طبيعيا للمسلحين "الجهاديين" المحليين في مالي، أما الجماعات التي استهدفت فرنسا ـ حين أعلنت الحرب ـ استئصال شأفتها والقضاء عليها (أنصار الدين، القاعدة، والتوحيد والجهاد)، فقد عمدت إلى اتباع استراتيجية حرب عصابات تستنزف الخصم، وتستفرغ قوته، وأعادت تشكيل تحالفاتها وهيكلتها أكثر من مرة، للتأقلم مع الوضع الجديد، ومما زاد الطين بلة دخول عامل جديد على الخط قبل سنتين، ويتعلق الأمر بتنظيم الدولة الإسلامية الذي بات له أتباع يصولون ويجولون في المثلث الرابط بين مالي والنيجر وبركنفاصو، ويتكؤون على سند إيديولوجي وتنظيمي ينشط في جنوب ليبيا وشمال نيجيريا وجنوب النيجر.
هذه هي حصلة الحرب في مالي، التي تفادت موريتانيا أتونها، واليوم يقف الفرنسيون على ركام الشمال وحطام الوسط المالي، والتهاب المناطق المحاذية شرقا، وقد أحترق الجميع بنيران حرب طاحنة، تكاد تفور تميز من الغيظ، بعد أن فشل سدنتها في المهمة المعلنة عنها، وهي القضاء على المقاتلين "الجهاديين" وجلب الاستقرار إلى المنطقة، وأهملوا عمدا الأزمة المالية الداخلية المزمنة، فتعثر اتفاق المصالحة بين الحكومة في بامكو والحركات الأزوادية، عند خط الانطلاقة.
تلك رزمة حقائق تستدعي من الحكومة الموريتانية مزيدا من الحذر في تعاطيها مع الشأن المالي، ذلك الحذر الذي أثبتت التجربة صوابه خلال السنوات الماضية، حين وقع ما حذرت منه نواكشوط بداية عام 2013، وانجرف الوضع إلى دوامة عنف تداخل فيها العرقي والقبلي والجهادي والقومي والانفصالي، ولن يعني إقحام مزيد من الدول والجيوش في المستنقع المالي اليوم، إلا مزيدا من ركام حطب نيران مشتعلة بات موقدوها عاجزين حتى عن تفادي لهيبها.