التقيت بالأستاذ طارق رمضان إبان تغطيتي الصحفية للمؤتمر السنوي للمنظمات الإسلامية في فرنسا في "لو بورجيه" بباريس في شتاء 1994.
كان أستاذا لامعا يلقي أفكارا لا غبار عليها، وخطيبا مفوها بلغات عدة. وكان متميزا بلون الحداثة والفكر المنفتح والأناقة في كل شيء... سويسريا أوروبيا قبل أصوله المصرية.
ولوضوح ووجاهة الأفكار التي يرسلها بلغته الفرنسية الباذخة وفلسفته الأوروبية، والمحاججة المنطقية، واستهدافه بكل ذلك عُقَد التأثير في الفكر الغربي (الديني/ الاجتماعي) وتبعاته السياسية، كأوروبي كامل، ومروره بالنفاق الأوروبي الذي يصنع ويرعى الديكتاتوريات في العالم الإسلامي... فتح الرجل على نفسه جبهات كثيرة متنوعة وملتهبة.
المزعج في البروفسور طارق رمضان أنه ليس واعظا يدعو للتنسك، ولا فقيها يفتي في الحلال والحرام... المزعج أنه يدافع عن فكرة مقنعة: هي حتمية أوروبية الإسلام، بفعل وجود الملايين من المسلمين مواطنين أوروبيين لا يمكن أن يظلوا في الضواحي الاجتماعية وعلى الهوامش السياسية.
إن قضيته ثلاثية الأبعاد:
*على المسلمين في أروربا أن يندمجوا في مجتمعاتهم كمكون أصيل مضيف لا مستضاف.
*على السياسيين والمفكرين والمخططين أن يعوا أن للأوروبيين ديانة أخرى مع المسيحية هي الإسلام، لأن من أبنائهم من يعتنقونه ميراثا واقتناعا.
* الإسلام نفسه دين حياة وحضارة، يقدم ولا يؤخر؛ يمكن أن يسهم في حل مشاكل أوروبا ويزيد من ثراء الحياة فيها، ولا تمثله أبدا أنظمة القمع الفاسدة الحاكمة في العالم الإسلامي ولا الحركات التطرفة والإرهابية...
بالطبع هذه أفكار طالما سمعها الأوربيون، بل من بني جلدتهم من يتحدث عنها علنا، ولكن بأصوات لا تخرج عن "الاستجداء" أو "رفع العتب".
فقدَ الأوربيون اليمينيون، فكرا وسياسة، صبرهم وضاقوا بهذا لنشاط الفكري الذي ينبثق من الداخل إلى الداخل... فشن الإعلام الأوروبي، وخاصة في فرنسا وسويسرا حملة شرسة منذ نهاية التسعينيات على الرجل، بلغت حد حظر دخوله الأراضي الفرنسية ـ رغم أنه أروبي ـ وتجاوزت الحدود لتقنع المسؤولين الأمريكيين فحظروا لفترة طويلة دخوله الأراضي الأمريكية...
وبالأصالة والتبعية والإلحاق مُنع طارق من دخول عدد كبير من الدول العربية، وخاصة السعودية التي منعته من المجيء للحج والعمرة... وحتى هنا في موريتانيا المفتوحة منع الرجل من الدخول بتأشيرته الموريتانية الرسمية!
طارق رغم انشغاله بأوربا وتركيزه على شأن الإسلام فيها، لا يفتأ يرمي أنظمة الاستبداد والفشل والطغيان في العالم العربي، ويفضح تواطأ الغرب معها ضد وعي ونهضة شعوبها...
وفي أوروبا ظلت عمليات الحرب والحظر تحطمها صخرة القوانين، بسبب طابع السلمية والاعتدال والحداثة في خطاب طارق رمضان، حتى يئس الأوروبيون من ربط أي علاقة له بموجة أو "موضة" الإرهاب "الإسلامي" أو التشدد أو التبعية...
وفي الأخير أثمرت جهود "حرب طارق" إمكانية منازلته على جبهة "الأخلاق" في حياته الشخصية الخاصة...!
*
ومهما يكن الأمر، فإن من يعلقون ـ سلبا أو إيجابا ـ على وضعية الرجل الحالية، وهي الاعتقال بتهمة عِرضِية، عليهم أن يصطحبوا ثلاث ملاحظات:
الأولى: أن هذا الشخص ليس معصوما من المعصية، بل رجل ذو بشرية عادية معرض للغواية والإغواء، وسائر الانحرافات الشخصية... ولم يظهر نفسه أبدا في ثوب "العبد الصالح"، ولا الواعظ المتبتل...
الثانية: أن انحرافاته الشخصية، المدانة على كل حال، إذا صحت، لا تؤثر على أفكاره ولا تنقضها، وخاصة في موطنها ومُستَهدَفها وهو الساحة الأوروبية.
وحتى التأثير السيئ لهذه الانحرافات المزعومة نختلف نحن المسلمين مع الأوربيين في تصورها وتقييمها؛ فنحن نراها "ذنبا" نُقره ونمارسه سرا، ونعيبه في حق البعض منا إذا كان جهرا. والأوربيون لا يعتبرونه شيئا غير "خرق القانون"، مثل تجاوز الإشارة الحمراء!
الثالثة: أن الرجل مستهدف بشكل معروف في أوروبا وخاصة فرنسا، ولم يثبت بعد في هذه القضية التي يُساءل فيها ويسجن، شيء يقين؛ بل ما تزال تهما ضعيفة مجهولة التفاصيل، قديمة الوقائع، ينفخ الإعلام الفرنسي والأوروبي فيها بشكل هستيري. ولا يستحيل أن تكون مجرد أكاذيب كما قال هو، وإن كان المرجح أن يدان فيها بطريقة ما، بسبب قوة وتركيز الضغط الإعلامي، وطول المعركة معه، ولاحتمال أن تكون صحيحة!