الفشل الأممي في شمال مالي.. يعمق الصراع في الساحل الإفريقي/ السلطان ولد البان - صحفي مقيم بلندن

ثلاثاء, 19/09/2023 - 10:37

 

بات الساحل الإفريقي يؤرق مضجع المجتمع الدولي والإقليمي، ولا حديث في أوروبا إلا عن آلاف المهاجرين الأفارقة الواصلين إلى جزيرة "لامبادوزا الإيطالية" بسبب النزاع المستمر والصراع الداخلي، وإقليميًّا يخشى الحزام الإفريقي الممتد من مالي إلى السودان من هواجس الإرهاب بعد أن تمددت التنظيمات الإرهابية وعززت تمركزها في مناطق واسعة. عدم الاستقرار السياسي في الدول المركزية الثلاث: مالي، بوركينا فاسو، والنيجر، حول الساحة السياسية الإفريقية إلى حلبة صراع وتراشق بالكلام بين القوى الدولية الكبرى فيما بات يعرف بـ "صراع الأقطاب" من أجل الظفر بنفوذ أكبر، جمهورية مالي أكثرهم وجعًا بتلك الأزمات، إضافة إلى فشلها في إحقاق السلام مع حركات الشمال الأزوادية، النيجر جرّها انقلاب عسكري على محمد بزوم إلى أزمة دبلوماسية مع فرنسا فاقمت من الوضع الاقتصادي الذي تخنقه المنظمة الإقليمية "إبكواس"، بوركينا فاسو تشرب من ذات كأس الحنظل، حيث ينتشر الإرهاب في قرابة 40% من مساحاتها، وتتقاسم البلدان الثلاث ضُرّ جماعات متطرفة بحجم تنظيم القاعدة في الساحل والدولة الإسلامية منذ قرابة عقد من الزمن.

‏‎ورغم ارتماء هذه الدول في حضن الأمم المتحدة وفرنسا لسنوات عديدة، من أجل إحلال السلام في الشمال المالي، ودحر الإرهاب في غرب إفريقيا، منذ بواكير ميلاد الجماعات الإرهابية لم يتحقق مشروع السلام بين الحركات الأزوادية والجيش المالي، ومن جهة لم تنجح قوات "سارفال" الفرنسية وأخواتها في هزيمة التنظيمات الإرهابية، رغم أن جهود الفرق الغربية في إطارها الدولي والأممي كانت ترى في ذلك التوقيت أن محاربة الإرهاب هي الوسيلة الأفضل لإحلال السلام والاستقرار السياسي في المنطقة على حساب قضية النزاع في الشمال المالي مع الحركات الأزوادية، واستمر الصراع الأزوادي والجيش المالي يتدحرج بين سلام متعثر وقتال متقطع إلى يوم الله هذا، وتشبثت الحركات الأزوادية ببطاقة أمل عبر رحلة قطار السلام لتحقيق حلم الانفصال واقتطاع الشمال المالي لإعلان الدولة المنشودة، بجغرافيا تصل مساحتها إلى 850 كلم وشعب تعداده السكاني يناهز 1,5 مليون نسمة، ولسان نطقهم بلهجة اسمها "تماشق".

بقيت أضغاث الأحلام تلك حبيسة أفكار الحركات الأزوادية إلى أن جاء اتفاق السلام في الجزائر في 2015، والذي حضره جميع الأطراف من الحركات الأزوادية، الحكومة المالية، الشركاء الدوليين، واتٌّخذت قرارات مهمة مُرْضِية للطرفين، منها إنشاء سلطات محلية مؤقتة في مدن الشمال الخاضعة لسيطرة الحركات، ودمج المقاتلين الأزواديين في الجيش المالي، إضافة إلى نزع السلاح من المقاتلين، لكن تطبيق هذه الاتفاقية يحتاج إلى موارد مالية وجهات دولية محايدة تشرف على تنفيذ البنود، خصوصًا بعد اصطدامها بإشكال منح الرتب قي الجيش، وعلى هذا الأساس تمركزت القوة الأممية لإحلال السلام في نقاط التماس وغيرها، والتي كانت بمثابة حائط يحول بين الفريقين دون أن تبدي رغبة جادة في تطبيق اتفاق السلام، والسلطة في مالي سارت على نفس النهج، أعتقد أنها كانت تراهن على دعم مالي خارجي، بقي الاتفاق حبرًا على ورق، لكنه مهّد لفترة سلام مؤقتة، لتصبح الاتفاقية بعد ذلك مثل سابقاتها، ويعود الصراع لنقطة الصفر حيث الصراع والصراع المضاد.
وعندما يئست الحركات الأزوادية من الوضع السياسي في مالي، والانقلابات متتالية، والحاكم الجديد في مالي نسف مشروع الارتباط العسكري بالقوى الأممية والفرنسية، شرع الحراك في توحيد صفوفه تحت عنوان جديد اسمه "الإطار الاستراتيجي الدائم" الذي يضم أهم الحركات المسلحة في الشمال والمؤمنة بمشروع الحلم المنشود، ورَصّت الحركة صفوفها على مهل واتحدت على مواجهة الجيش المالي تحت راية الحلم المنشود، ورغم أن هناك طيف آخر يشن هجومه على الحركات الأزوادية والقوات المالية من جهة، فإنهم تمكنوا في مرحلة معينة من التعامل معه بما يشبه الهدنة، لتبدأ صافرة انطلاق المعارك بشكل رسمي عندما طلبت السلطة الانتقالية في مالي من مجلس الأمن الدولي سحب قواته وإنهاء مشروعها، بحجة أنها لا تحقق مصالح الشعب المالي، وتمت الموافقة على الطلب وبدأت عمليات الانسحاب بشكلٍ تدريجي، وستكتمل نهاية العام الجاري 2023، هذا الانسحاب شكّل معركة جديدة بين الطرفين على القواعد العسكرية الموجودة في الشمال، من الذي سيتسلمها بعد رحيل القوات الأممية؟ 
هنا بدأت قصة المعارك الجديدة، السلطة في مالي تعتقد أنه بحكم السيادة وسريان مفعول (اتفاق السلام) يجب أن تتسلم إدارة شؤون الجزء الشمالي من القواعد العسكرية التي كانت منزلًا للقوات الأممية والفرنسية والإقليمية، أما الحركات الأزوادية فهي تعتقد أن اتفاق السلام قد أخلت به السلطة المالية منذ دعوتها لمقاتلي شركة فاغنر ومحاولتها التوغل شمالًا، وأصبح لاغيا، حسب ما جاء على لسان المتحدث باسم المنسقية، وبالتالي فإن "الإطار الاستراتيجي الدائم" سيتولى إدارة القواعد العسكرية  في الشمال التي تنسحب منها القوة الأممية، وتمسك كل طرف بحقه فيما يراه مشروعًا وطنيًا بالنسبة له.

تعتقد السلطات في مالي أن فاغنر بإمكانها أن تملأ الفراغ الذي خلّفته القوة الأممية والفرنسية لتحقيق الأهداف الأمنية، لكن مقتل رئيس فاغنر "يفغيني بريغوجين" شكّل صدمة كبيرة، وأصبح مصير الشركة العسكرية في إفريقيا غامضًا؛ ما أحدث فارقًا كبيرًا في نسق أنشطتها العسكرية في المنطقة، وتثار الشكوك حول سعي وزارة الدفاع الروسية إلى إعادة ضبطها وفق قائد جديد أو سحبها من أجل دمجها لاحقًا، ومهما كانت التكهنات تبقى التحركات الميدانية للجيش المالي ترجمة كافية لفهم ذلك. منذ أيام قليلة زار نائب وزير الدفاع الروسي يونس يفكروف العاصمة باماكو وعقد اجتماعًا عسكريًا مع رئيس المرحلة الانتقالية آسيمي غويتا ونظيره البركينابي إبراهيم تراورى ووزير الدفاع النيجري ساليفو مودي، ليتم الإعلان عن اتفاق "ليبتاكو غورما" الهادف لتوحيد جهود هذه الدول المضطربة وحمايتها لبعضها من أي تهديدات خارجية وشيكة، لكن المولود الجديد ما زال يحتاج لبعض الوقت لتشكيل قوته القتالية ورصد الميزانية الكافية لتحقيق الأهداف، وفوق كل ذلك يأتي السؤال المهم: كيف ستوائم هذه الدول بين التحديات الداخلية التي تستنزف جهودها وتلك الخارجية التي تهدد وجودها؟

الكاتب/الصحفي سلطان البان
لندن 19/09/2023

تصفح أيضا...