خرجت أمشي متريِّضا مع أحد أفراد العائلة مساء الجمعة الماضي حوالي الساعة العاشرة في الساحة الواقعة أمام قصر المؤتمرات القديم. لفت انتباهي وجود ثلاثة شبان، جالسين على قارعة الطريق، لم يرفعوا أعينهم عنا. ودون سابق إنذار أو استئذان أو مناسبة، بادر أحدهم بسؤالي بصوت مرير لكنه لا يخلو من ود وسخرية: السيد الرئيس، ما عندكم "شغلة"؟ استغربت السؤال بواقع المكان والزمان، إلا أنني وقفت احتراما للإخوة وحزنا لواقع البطالة في صفوف شبابنا. ولدقائق معدودة، بدت وكأنها ساعات طويلة، دخلت معهم في حوار مفتوح وصريح نقلوا من خلاله معاناتهم. أكثر من ثلاث سنوات دون عمل، بين إحباط ومكوث في البيت وقلق نفسي وعصبي، والنهاية ستقود حتما إلى اليأس واللجوء إلى حائط المكسيك.
دار بيني وبينهم الحوار التالي:
بداية سألتهم: هل شاركتم في المسابقات التي تنظم أحيانًا؟ هل بحثتم عن عمل في القطاع الخاص بدلا عن انتظار الحصول على وظيفة في الادارة العمومية؟ هل حاولتم الدخول معاً في أي مشروع تجاري، مثلاً، في الزراعة أو الصيد أو الخدمات، إلخ؟ هل طلبتم الاقتراض من أي هيئة تمويل لإنجاز مشاريع صغيرة : مكتب دراسات، وكالة إعلام وترويج، مكتب سكرتاريا وترجمة وتنظيم مؤتمرات، شراء شاحنات تبريد لبيع الأسماك، هكتار مروي لإنتاج وبيع الخضروات، إلخ؟ قال كبيرهم، وهو متحدث لبق وفصيح ومنظم الأفكار: اثنان منا خريجا كلية الآقتصاد، والثالث ما زال يحضر للدكتوراه، ويعمل بطريقة أو بأخرى على تأجيل تخرجه خوفاً من أن يتعرض للمصير نفسه الذي نواجهه حالياً.
وقال صديقه: معالي الوزير، ها أنذا عدت منذ سنتين لوطن فارقته عقدا من الزمن تحصيلا للمعارف والعلوم وتجميعا للشهادات العليا، وأضناني البحث عن العمل، ويعلم الله أني مسؤول عن عائلة أبي وأمي وإخوتي، وهم في أمس الحاجة لي و لعملي. تعبتُ من التردد على المكاتب، تعبتُ من المواعيد و الوعود الفارغة، تعبتُ من تكرار طلباتي للناس، و أنا الذي لا يُمكنني طلب كأس من الماء من شخص غريب.
تنهد الثالث وأخذ نفسا طويلا، وقال بنبرة يأس وإحباط : السيد الوزير، نحن درسنا وحصلنا على شهادات عليا، مجتهدون و جادون في حياتنا، لا ندخن، لا نسافر، لا نقامر، لا نعارض، محافظون على القيّم والأخلاق، والمسجد والجماعة؛ ولكن ضاقت بنا الدنيا بما رحبت، لا عمل، ولا وظيفة، ولا راتب.
هذه الكلمات أصابتني بصدمة، وذكرتني بفراق ابن أختي العزيز وسمي والدي الذي اضطر لخوض غمار الهجرة والحائط قبل ثلاثة أشهر في حين غفلة منا، حفظه الله ورعاه، وردّه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن.
وختاما سألتهم: برأيكم لماذا لا يجد الشباب وظائف؟ هل بسبب نقص الخبرة المهنية؟ أم بسبب الانفصام بين مجال تكوينه، وحاجيات سوق العمل؟ وهل الحكومة هي المسؤولة وحدها عن بطالة الشباب؟ مررنا بسرعة على هذه الأسئلة وغيرها. وتوصلت إلى بعض الاستنتاجات أعرض لها بإيجاز في هذا المنشور. ولكني قبل ذلك، أود أن أشكر "الثلاثة الذين خلفوا" على صراحتهم وروحهم المرحة، وأقول لهم: إني أقدر موقفكم وحقكم في الحصول على العمل. وآمل من خلال هذا المقام والمقال، أن تصل صرختكم إلى القيادة الوطنية؛ وهي قيادة رشيدة ومؤتمنة على مصلحة البلاد والعباد دون شك. وهنا، أسجل بارتياح ما جاء في خطاب معالي الوزير الأول محمد ولد بلال أمام البرلمان من تأكيد والتزام بإعطاء الأولوية لمشكلة البطالة في صفوف الشباب.
خرجت من نقاش الجماعة باقتراحات على شقين:
* الشق الأول يتعلق بالحكومة:
1 - القيام بدراسة معمقة وجوهرية لمعضلة البطالة في صفوف الشباب من خلال فريق عمل مستقل، وطني ومسؤول على أن يتم اتخاذ ما يلزم لعلاجها برعاية مباشرة من معالي الوزير الأول و تحت رقابة سامية من فخامة رئيس الجمهورية،
2 - تفعيل مكتب "التنظيم" (Bureau Organisation et Méthode- BOM) وتكليفه بمراجعة الهياكل التنظيمية لجميع الوزارات والهيئات والمؤسسات العمومية من أجل صقلها وتخليصها من كافة المناصب غير الضرورية أو المكتسبة بغير وجه حق.
3 - تهدف عملية الجرد والمراجعة هذه إلى تحقيق غرضين إثنين، هما: الوصول إلى مؤسسات أقل تكلفة، وإدارة أفضل وأكثر مرونة، ومن ثم توفير أموال جديدة وتوجيهها لإنشاء صندوق اجتماعي لتدريب وتوظيف الشباب.
4 - مضاعفة وتنويع مصادر التمويل وصناديق وهيئات الدعم والمساعدة لصالح الشباب الراغبين في ريادة الأعمال. على الحكومة أن توفر الدعم المالي المناسب لأي مشروع ذي جدوى يقدمه شاب بين 25 و 35 سنة من العمر.
5 - تكييف نظام التعليم والتدريب مع ظروف الزمان والمكان: بدءًا بالتغيرات داخل المجتمع والثقافة والقيم والعادات، والحاجيات، والنفسيات؛ وانتهاءً بالتغيرات في نمط الاستهلاك، والبيئة، والمناخ.. فتح مدارس عليا: تجارة، معلوماتية، هندسة مدنية، كهرباء، إلخ..
6 - يعني تكوين وتدريب الشباب من حملة الشهادات وغيرهم بحيث يكون لديهم من المهارات والتقنيات ما يؤهلهم مباشرة للدخول في دورة الانتاج. لا يستوي منكم من جاء بتخصصات مهنية، و من جاء بشهادة عامة، وكلا وعد الله الحسنى.
7 - تمويل محاربة البطالة بشكل غير مباشر عبر إعطاء امتيازات مالية وضريبية أو أي تسهيلات أخرى لكل شركة عمومية أو خصوصية بحسب ما توفره من فرص عمل و عقود تشغيل مؤقتة أو دائمة للشباب.
* الشق 2 يتعلق بالشاب نفسه:
1 - اعلم، أخي الشاب، أن الدولة لا يمكنها استيعاب كل العاطلين بواسطة "التعيينات" الادارية؛ ولذلك ينبغي أن تهيئ لنفسك سيناريو "ب". فكر مثلا في إنشاء "أعمال تجارية"، بدل التردد على المكاتب دون جدوى.
2 - حدد هدفك، واعمل دراسة للسوق، واختر مشروعا تجاريا في مجال واعد، وارسم خطة عمل، واعتمد على نفسك، وابحث عن شركاء إن لزم الأمر، وطالب الحكومة بالدعم والتشجيع.
3 - غالب الظن أنك ستلقى الدعم من الهيئات القائمة، أو التي ستظهر قريبا مع التدفقات المالية المرجوة من التقشف وتحسين التسيير وتقليص كلفة الإدارة، و دخول إيرادات الغاز والبترول، والذهب، الخ. المستقبل واعد بإذن الله.
4 - وبموازاة ذلك، حافظ على رصيدك المعرفي من خلال المطالعة الدائمة حتى لا يتراجع مستواك. وشارك في المسابقات التي تنظم من حين لآخر عسى الله يكتب لك النجاح. أنصحك بالتفاؤل وحسن الظن.
5 - و أحذرك عن دوام التشكي و التخوين و التلعين، فإنه قد يساعدك على الترويح عن نفسك، لكنه لن يساعدك على تغيير أوضاعك. واعلم أن النجاح دائما نقطة وصول، وليس نقطة انطلاق.
6 - كل التجارب الناجحة في العالم تشير إلى أن القضاء على البطالة أو الحد منها عملية معقدة تستدعي التشارك بين حكومة صارمة وحازمة واستباقية، وشباب واعٍ بصعوبات وإكراهات الواقع، وجاهز للعمل ضمن الممكن والمتاح.