شهدت بلادنا هذا العام هجرتين بارزتين، إحداهما خارجية طوعية، والأخرى داخلية قسرية.
أولى الهجرتين كانت هجرة أعداد كبيرة من الشباب الموريتاني إلى الولايات المتحدة،بينما تمثلت الهجرة الثانية في هجرة أعداد كبيرة من الناخبين، أو بعبارة أدق تهجيرهم من مناطقهم إلى مناطق لا عهد لهم بها.
تبدوا دوافع كلا الهجرتين في الغالب مادية صرفة، فقد اضطر غالبية شباب موريتانيا لتسلق حائط المكسيك بعد أن ملوا التطواف في فيافي البطالة الممتدة في ربوع موريتانيا، ولنفس الدافع غالبا باع فقراء الناخبين أصواتهم بثمن بخس في سوق شراء الذمم.
تتجلى بوضوح خطورة هاتين الهجرتين على المديين القريب والبعيد، فعلى المدى القريب تمثل الهجرة إلى آمريكا خطرا داهما إذ تُفقد البلاد طاقة عمالية وشريحة تمثل العمود الفقري للاقتصاد الوطني، كما تعطي صورة سلبية عن البلاد، إذ ليس من المستساغ أن يكون بلد قليل العدد وافر الموارد عاجزا عن احتواء شبابه وتوفير موارد عيش تغنيهم عن ركوب المخاطر والاغتراب بعيدا عن الأهل والوطن، وعلى المدى البعيد قد يؤدي اغتراب هذه الأعداد الكبيرة من شباب البلاد في الغرب وانفتاح أعينهم على ما تعيشه هذه الدول من تقدم مادي وحكامة في التسيير إلى هزات نفسية ارتدادية وإلى اتساع أفق الأمل لديهم، وهو ما نرى بوادره تتجلى في بروز أصوات وصفحات تجلد واقع البلد جلدا مستعينة بما فتحته التكنولوجيا الحديثة من نوافذ وما أتاحته من فرص، ولا شك أن أصحاب تلك الصفحات-رغم ما يعتري بعضهم من زيغ وشطط أحيانا- فإن واقع البلاد المزري واستشراء الفساد فيها يعطيانهم مشروعية ومصداقية ويوسعان دائرة متابعيهم وهو أمر قد يؤدي مع عوامل أخرى إلى زيادة مساحة الوعي المجتمعي وارتفاع نسبة المطالبين بالحقوق. وذلك المستوى إذا وصلته الشعوب لم تعد تجدي معها المهدئات ولا الحلول الترقيعية عادة.
أما الجزء الثاني من موسم الهجرة "تهجير الناخبين" فهو من الخطورة بمكان، إذ هو علاوة على كونه يعد استهتارا بكرامة المواطنين واستغلالا لفقرهم وعوزهم، فهو تجنٍّ على الناخبين الأصليين، إذ كيف يتصور عاقل أن يكون سكان الميناء -مثلا-هم من سينتخبون ممثلين لتوجنين والعكس، وأن يكون سكان السبخة سينتخبون ممثلين لعرفات.....
أيُّ استهتار بمصائر المواطنين!!وأيُّ تلاعب بحقوقهم!!
إن مثل هذه الخدعة قد تكسب مرشحي النظام نجاحا لم يكونوا يتوقعونه، ولكنه انتصار مرحلي"آني"، فعلى المستوى البعيد قد تكون له ارتدادته القاتلة، إذ ليس من المقبول للمعارضة بعد جرها في غفلة من أمرها إلى حفرة تسفير الناخبين أن تقبل الوقوع فيها من جديد، فلا أتوقع أن ترضى بالمشاركة في انتخابات تسفير وتهجير بعدها، وبالمقابل يصعب على الناخبين غير المرحلين "المحلين" أن يمنحوا أصواتهم لمن دفعتهم البرغماتية السياسة إلى أن يولوا عليهم من لا يعرفونه ويطمروا أصواتهم في سيل من البشر لم تطأ أقدامهم تلك الأماكن إلا يوم الانتخاب.
رأينا إذا أن هذا الموسم كان موسم هجرة بامتياز، غادر فيه موريتانيا عدد كبير من أبنائها إلى الولايات المتحدة، وهُجر فيه الكثير من أبنائها المصوتين عن مساقط رؤوسهم وذويهم لانتخاب من لا ناقة لهم به ولا جمل، وقد ظل النظام محايدا تجاه كلا الهجرتين على الرغم من أنه قد يكون أكبر متضرر منهما، فالهجرة الخارجة قد ينظر من خلالها إلى كون البلاد في عهده صارت طاردة لأبنائها، وأما التهجير الانتخابي فقد يكون عزوف رموز المعارضة عن زياراتهم السرية والمعلنة للقصر الرمادي وعودتهم لتسيير المسيرات الاحتجاجية أولى ارتداداته على نظام كان إلى وقت قريب يعد في مقدمة إنجازاته:
تطبيع الساحة السياسية والانفتاح على الطيف المعارض.