شاءت الأقدار أن زُرت في الأيام المنصرمة مدينة الآباء والأجداد بعد قطيعة طويلة مع المواسم السياسية والتي كان آخرها أيام تنافس الأب المناضل مسعود ولد بلخير على الرئاسيات مع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
تلك الانتخابات التي أبهرت الجميع حين أذن في الناس طفر الباء الأبجدية خفية، وكان هذا الوثوب صادما لمن مثلى تعلم في محاظر مدينة أطار أنها أقوى حروف اللغة بعد الطاء وميزتها الترابية والنورانية.
لم تكن هذه الحادثة أول عهد لي بالعملية الانتخابية حيث شاهدت في الاستحقاقات التي سبقتها الناخبين يجليهم النّخّاسون وكأنهم بين أسواق حبَاشَة والرّابِية. كما لم تكن الواقعتان حصرا على مدينتي بل عمَّتا البلاد ولم تسلم العباد من أفعال يندى لها الجبين وأدركت حينها أن البَرَّاضَ بُعِث من جديد لوأد حلمنا الديمقراطي وإشعال حرب الفِجَارِ وأن لا مكان لشاب ثلاثيني مثلي غرير يسمى المُنتَخَبَ عِرِّيفا والناخب حاكما والأمة صاحبة الحق الأصيل. وأن لا مكانة بين القوم لمن لا يُجِيدُ فنَّ "الزيدنة" وإن كنت أذكر ليالي الواحات المظلمة حين كنا نتعاطى من الندوات الشعرية بيت الشاعر في عهد المماليك بعد زلزال مصر :
ما زلزت مصر من كيد أيرد بها لكنها رقصت من عدلكم طربا
يتضح من هذا المشهد أن موت الدكتاتورية لم يكن بالضرورة نذيرا لمولد الديمقراطية لكنه أطلق قوى اجتماعية وشعبية من معاقلها بعد أن كانت مقيدة في عهد الحزب الواحد. كما أن الحركات السياسية التي تشكلت في ظل الأنظمة الأحادية وجدت أرضية لتشكيل معسكر للإستبداد والعمل على تقويض التجربة الديمقراطية وإرجاع البلاد إلى ما تعتبره المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات "الإستثناء العربي".
منذ عام 1978 وعلى مدى أربعة عقود أوعزت الأنظمة إلى هذه الكتلة الصماء بشيطنة الديمقراطية وبأنها نظام لا يَصلِحُ ولا يُصلِحُ مستقوية بأفكار النظم الشمولية والتسليطية التي تُرجِعُ هذا الاستعصاء إلى الإستعمار وآثاره والفقر وأضراره والتراث السياسي الإسلامي وأفكاره والهيكل الإثني وإكراهاته. بيد أن هذه التفسيرات الثقافية لا تصمد كثيرا لأن الثقافة العربية الإسلامية لا تقل شأنا عن غيرها من الثقافات وليست أقل اعترافا بالقيمة الإنسانية.
كما أن المفكرين العرب من ابن خلدون إلى عزمى ابشارة كتبوا المواءمة والتوفيق بين القيم الإسلامية العربية والديمقراطية وأصَّلوا كذلك للدور الإيجابي للعصمة التقليدية في ظل غياب الدولة الحديثة كما أظهروا أن الوهن الداخلي هو الذي سمح للفاعل الخارجي التسرب لمجتمعاتنا تحت غطاءات عدة منها الشرائحية والطبقية.
في مطلع العقد الثالث من الألفية الثالثة كان تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية وتداعياته بمثابة رجة أحدثت في الكتلة الصماء شرخا لا يقبل الترميم. كما أفرز التواصل الاجتماعي وعيا جمعيا يتطلع لما عجزت عنه الكتلة الصماء من ربط بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وترخيص روح المواطنة وإبعادها عن الشركات السياسية ومالها الفاسد والإعلام المأجور الذي يكرس التنافس على المقاعد على حساب بناء المؤسسات.
تشكل الانتخابات القادمة تحديا جللا يحتاج إلى عنف ديمقراطي لإبعاد النخبة المالية التي لا تقوى على التنافس الديمقراطي وقواعده المتفق عليها. ثم إن العنف الديمقراطي تحتاجه النخبة القادمة للمسك بخيوط الحل وعلوية القانون واجتثاث الزعامات التي تنتزع شرعيتها من توظيف الخاص على حساب العام.
ختاما نسأل الله لبلادنا السلم والأمان والعدل والعمران ونعوذها بالله من حسد يسد باب الإنصاف ويصد عن جميل الأوصاف.
بقلم سعد بوه ولد سيد باب