اختيرت نواكشوط عاصمة للثقافة الإسلامية لسنة 2023، مما قد يكون مناسبة للحديث عن ظاهرة كثيرا ما لفتت نظري في هذه المدينة التي تتباهى اليوم بحضارتها الإسلامية العريقة، ألا وهي فوضوية المساجد، التي من المفروض أن تشكل أهم المعالم المجسدة لانتمائها وثقافتها الإسلامية.
فوضوية العمران والتصميم
يلاحظ الزائر لمدينة نواكشوط فوضوية المساجد، حيث عشوائية البناء ورداءة التصميم والإنجاز، فهي في الغالب بنايات سطحية، متهالكة أحيانا، لا هوية معمارية تميزها ولا معايير فنية تخضع لها في التصميم والبناء، مما يتنافى مع شعار دولة إسلامية ذات أصالة. فالكل يبني مسجده، أين وكيف يشاء، إذ تكفي حيازة قطعة أرضية أو الاستيلاء عليها وادعاء ملكيتها، فلذلك لا تحترم أغلب المساجد ضوابط المخطط العمراني ولا حتى معايير السلامة.
لقد أنتجت هذه الفوضى والارتجالية ظواهر غريبة، كبناء المساجد في الساحات العمومية أو على القطع الأرضية المخصصة لمنشآت أخرى أو تحويل واجهاتها إلى حوانيت ومحلات تجارية. لكن الظاهرة الأغرب هي تزاحم المساجد في مساحات ضيقة. فنجد مسجدين في نفس الشارع وثلاثة أو أكثر في نفس الحي، مع عدد قليل من المصلين في كل واحد. ولا أحد يتجرأ على ذكر الموضوع، خوفا من الإرهاب الفكري الذي يمارسه بعض المتطرفين والمتزمتين، بحجة قدسية المساجد.
هؤلاء وغيرهم امتهنوا جمع التبرعات لبناء المساجد، هم يشكرون على ذلك، لكن غياب أي تخطيط ساهم في تفاقم الفوضوية، في ظل انعدام سياسة واضحة للتوجيه الإسلامي وتهاون الإدارة في أداء وظيفتها المتعلقة بتنظيم ورقابة العمران. وحسب الكثير ممن تحدثت معهم في الموضوع، غالبا ما تكون هناك أهداف عقارية ومآرب مالية وراء تشييد بعض المساجد، في ظل رضوخ الدولة لتدفق التمويلات الأجنبية، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام مختلف أنواع التحايل.
مظاهر الفوضى داخل المساجد
لقد تسللت ثقافة الفوضى حتى إلى داخل المساجد. فأغلب مساجد العاصمة تفتقد لأبسط التجهيزات، إذ لا توجد فيها دورات مياه و لا أماكن مخصصة للوضوء، وإن وجدت تكون في حالة يرثى لها، مما يرغم المصلين على الوضوء في كل أنحاء باحة المسجد أو في الشارع. ونظرا لغياب ثقافة احترام المساجد، يتجرؤ البعض على العديد من التجاوزات التي لا تليق بقدسية دور العبادة، حتى أن هناك من يأتي إلى المسجد بلباس النوم أو بدراعة من دون قميص.
كما تفتقر المساجد للصيانة، حتى أن القائمين عليها ليسوا قادرين على المحافظة عليها وإعادة تأثيث الجوامع التي تبرعت بها بعض الجهات والدول الشقيقة، بالرغم من أن الأمر لا يتطلب سوى مبالغ محدودة سنويا، يمكن جمعها من المصلين. ويمتد هذا التقصير الصارخ حتى إلى الجامع الكبير وغيره من الجوامع في العاصمة، حيث يبدو أثاثه متهالكا. ويخشى الكثير من المصلين السجود عليه بسبب استنشاق الغبار المتراكم ومختلف أنواع البكتيريا الضارة، ناهيك عن الفيروسات. على العموم، لا توجد عناية بالمساجد فغالبا ما تفتقد للنظافة، نظرا لتراكم الأوساخ والقذرات داخلها وفي محيطها والتي تزعج المصلين، حتى أن بعضها أصبح ملاذا للمتسولين والمتسكعين بل وللحيوانات السائبة أحيانا.
وتمتد مظاهر الفوضى إلى مكبرات الصوت التي غالبا ما تكون إما مرتفعة جدا أو غير مسموعة إطلاقا. ومن المؤسف أن يلقي الإمام موعظته دون أن يستفيد أي من المصلين منها، نظرا لعدم التمكن من سماعها بوضوح. ناهيك عن ظاهرة المداخلات المرتجلة مباشرة بعد الصلاة، فدائما ما ينبري من يلقي موعظة صاخبة وغير متناسقة، يزعج صوته كل المنازل المجاورة للمسجد، دون أن يستفيد أي من الجيران منها، نظرا لعدم التمكن من سماعها بوضوح، في الوقت الذي كان من المفترض أن تقتصر المداخلة على المصلين الحاضرين في المسجد. حتى في بعض الأحيان، يسارع إثنان أو أكثر لإلقاء كلمة بعد الصلاة، أو كُل يحاضر في ركن من المسجد في جو من الضوضاء العارمة، مع تفاقم ظاهرة المتسولين وخطاباتهم المتكررة، مشوشين بذلك على المصلين الذين لم يعد بمقدورهم التفرغ لأذكار ما بعد الصلاة والتركيز عليها. أما النداء للصلاة فغالبا ما يكون أقرب للصراخ، بغياب تحسين الصوت وجماله المطلوبين لاستحضار الروحانية المتوخاة عند سماع الأذان، حتى تكبيرة الإحرام فهي في بعض الأحيان أشبه ما تكون بصيحة مفاجئة. على العموم، عوامل الطمأنينة مفقودة، للأسف، في معظم مساجدنا، مما يجعل من الصعب الخشوع في الصلاة، نظرا لكثرة الغرائب داخلها، كالجدال الأزلي بين المصلين حول عدة مواضيع، مثل توقيت الأذان والصلاة إلى الخلافات المذهبية، مما يفسد جو السكينة الذي يقتضيه المكان.
ضعف دور المساجد في إصلاح المجتمع
تقتصر مهمة المساجد في بلادنا حصريا على ركن الصلاة، دون الإشعاع الثقافي والديني والروحاني، الدور الذي كان من المفروض أن تتبناه والذي لعبته في تاريخ البلد منذ حقبة المرابطين. لذلك، يبقى تأثيرها هامشيا في عملية الإصلاح المجتمعي والفردي، حيث لم تعد تساهم كثيرا في تغيير العقليات والتصدي للظواهر المنحرفة، كالتطرف والفساد والرشوة والاستبداد وانحلال الأخلاق.
من أبرز أسباب القطيعة بين المسجد والمواطن هو أن خطبة الجمعة عادة ما تكون لا علاقة لها بواقع المواطنين، لا بانتظاراتهم ولا بتطلعاتهم، نظرا للارتجال والتكرار اللذين يميزانها، فغالبا ما تقتصر على موعظة قديمة تكرر من جمعة إلى أخرى، في ظل عدم اهتمام المصلين، الذين ينتظرون بفارغ الصبر الانتهاء من الصلاة لمغادرة المسجد، دون أن يقوم الكثير من الأئمة بتبني مواقف قوية من القضايا الوطنية التي تشغل الرأي العام، كاللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية والتعايش السلمي، ناهيك عن تذكير أولي الأمر بواجباتهم ومسؤولياتهم تجاه المال العام وحقوق المواطنين. والغريب في الأمر هو تنامي ظاهرة الأئمة الشباب المغمورين الذين لا يتوانون عن اعتلاء المنابر، فقط لحصولهم على الإجازة وحفظ بعض المتون عن ظهر قلب، مع وجود واضح لفراغ فكري وحتى ديني لدى الكثير منهم، نظرا لمستواهم الثقافي والتعليمي المتدني، مما يفسر عجزهم عن التأثير في الشباب وإيصال خطابهم لهم من أجل المساهمة في بناء المجتمع.
على العموم، هذا النمط الشعائري ساهم في إفراز تيارات فكرية شاذة، خاصة لدى بعض فئات الشباب ورواد وسائل التواصل الاجتماعي، الذين أصبحوا لا يترددون في الخروج عن الثوابت والتهجم على العلماء والأئمة والمشايخ، متهمين إياهم بالجهل والتقصير والتملق وتسخير الدين لمصلحة أصحاب الجاه والمال والسلطة.
لا يمكن الحديث عن المساجد دون أن نذكر المحظرة، التي تعتبر في أغلب الأحيان جزءا من مبنى المسجد، فهي مدرسة دينية تقليدية، لعبت في الماضي دورا رياديا في نشر الإسلام، ولكنها اليوم، خاصة في المدن، عبارة عن بيت يتكون من غرفة أو غرفتين، بمحاذاة المسجد يتم استغلاله للتدريس وفي نفس الوقت كسكن للطلاب، بدون توفره على أثاث ملائم، مما يجعل مهمة التعليم شبه مستحيلة، نظرا لشح الموارد وضعف التأطير التربوي والمنهجي، حيث يتم التركيز على حفظ المتون، بدل تكوين الطلاب على أنواع العلوم. ويتم تسيير هذه المحاظر بصفة غير مهنية، حسب مزاج المسؤول عنها، الذي عادة ما يكون مشغولا بأمور دنيوية ملحة. كما أنها لا تثير اهتماما لدى الجيران وجماعة المسجد، باستثناء مدها ببعض الطعام بوازع إراحة الضمير والبحث عن الثواب الأخروي.
ضرورة تبني مقاربة إصلاحية مندمجة للمساجد
تقع مسؤولية عملية الإصلاح على عاتق الدولة، ممثلة بوزارة التوجيه الإسلامي، التي هي جزء من المشكلة، إن لم تكن هي المشكلة نفسها. في هذا السياق، يجب على الدولة أن تتبنى رؤية قطاعية مندمجة ومتكاملة وخطة واضحة لتنظيم الشأن الديني، من أجل بسط سيطرتها على المساجد والمحاظر وإخراجهما من الفوضى السائدة. فلا يمكن ترك المساجد دون رقيب، يصول فيها ويجول كل من هب ودب. الهدف هو جعل المساجد مراكز إشعاع ديني وفكري قادرة على التأثير في عملية الإصلاح وتغيير العقليات. وذلك يمر عبر تبني مقاربة متعددة الجوانب، تشخص المشكلة بصفة دقيقة وتقدم حلولا عملية، تبدأ بتكوين الخطاب والوعاظ والمرشدين وتحسيسهم حول مظاهر الفوضى وتوعية الكل على ضرورة احترام المساجد. مع التركيز على مضمون خطب الجمعة لتوجيه الرأي العام ولإعادة المساجد إلى دورها الديني والفكري والأخلاقي والمكانة السامية التي تليق بها في مجتمعنا، من أجل نشر العلم وروح الوسطية والاعتدال.
كذلك، لا بد من إحصاء كافة المساجد على عموم التراب الوطني وسن قانون لبنائها، يحدد الضوابط الجغرافية والمعمارية والأمنية والتمويلية اللازمة، مع ضرورة بناء مساجد نموذجية. فبوصفها مرافق عمومية أساسية، يجب أن يتماشى بناؤها مع المخطط العمراني للمناطق المعنية. كما يجب أن يخضع ترخيصها للدولة، ممثلة في البلدية والوزارات الوصية، ولا يمكن أن يعود لمبادرات الأفراد أو الجمعيات. فقرار بناء المساجد يجب أن يكون ممركزا، لضمان تخطيطها وتناسبها مع الحاجة وكذلك خضوعها للمعايير المعمارية والمتعلقة بالسلامة. إلا أن الدولة قد تكون قاصرة عن تمويل تشييد المساجد، فحينئذ يمكن للأفراد أو المنظمات، كجهة مبادرة لبناء المسجد، جمع التمويلات، حسب الطرق الشرعية التي يسمح بها القانون، بعد الحصول على التراخيص الضرورية والملزمة باحترام كل الضوابط، كما هو الحال في أغلب الدول الإسلامية الأخرى. فملكية القطعة الأرضية أو التبرع لبناء مسجد أو الإشراف عليه أو التكفل بصيانته لا يعني امتلاكه، فهو مرفق عمومي وملك عام يجب أن تشرف عليه الوزارة. عمليا، يودع ملف لدى الإدارة المعنية لدراسته، انطلاقا من دفتر التزامات محدد يتم التثبت من احترامه ويمكن التعاقد مع مكتب متابعة من أجل التأكد من تطبيق كل هذه المعايير.
وفي الأخير، هناك بعض التحديات والتساؤلات التي من الضروري أن نتعامل معها بموضوعية : كيف يجب التعامل مع المساجد المبنية بصفة عشوائية ؟ هل يعتبر بناء المزيد من المساجد أولوية في الوقت الذي لا نكاد نرى أكثر من ثلاثة أو أربعة صفوف في بعضها؟ أم هل يجب تركيز الجهود على ضمان وتحسين جودة وصيانة المساجد الموجودة ؟ هل أصبح من الضروري إنشاء صندوق يعتني بمركزة وجمع التبرعات لبناء المساجد تشرف عليه الدولة ؟ هل يجب استثمار جزء من أموال هذا الصندوق لصيانة المساجد ودفع أجور العاملين عليها ودعم المحاظر؟