استقبلت موريتانيا في اليومين الماضيين باحثا ينتمي إلى الجيل الثالث من الفلاسفة وعلماء الاجتماع المغاربة هو د.عبد الغني منديب كان لي الشرف أن شاركت في حلقة دراسية لكتابه المعروف "الدين والمجتمع – دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب" نظمها صالون الولي الثقافي بنواكشوط.وقد شارك في هذه الحلقة الدراسية عدد من الباحثين السوسيولوجيين والمهتمين بحقل الدراسات الانتروبولوجية وسوسيولوجيا الأديان في موريتانيا.
بدأ المحاضر بتأطير الكتاب في سياقه المعرفي والتاريخي قائلا بأننا اليوم نعيش في زمن تتنازع فيه أنماط الفهم للدين الواحد وهو أمر ينطق على كل الديانات بدون استثناء سواء التوحيدية منها وغير التوحيدية.أما إذا نظرنا إلى الإسلام فإن ما يثير الانتباه هو ظهور حركات سماها المؤلف بـ "الحركات الإسلاموية" وهي التي تسمى في الغرب بـ "الحركات الجهادية" وهي تسمية غير صحيحية في نظره لأن الجهاد كما ورد في الإسلام وفي الثقافة الإسلامية بعيد عن الترهيب والتخويف الذي تمارسه تلك الحركات التي كانت تمارس في بداية الأمر أسلوب الترغيب ثم انتقلت بعد ذلك إلى أسلوب الترهيب والقتل.
وقال إن الدراسة التي قام بها تستمد مشروعيتها مما يجري على أرض الواقع فقد رجعت إلى الممارسة الدينية العادية التي أصبحت اليوم محل اعتراض ونفور من قبل تلك الحركات الإسلاموية التي تراها منافية للدين الصحيح ومجانبة للعقيدة الصحيحة وهذا هو ما يبرر في نظرها ترهيب الآمنين وقتل البسطاء وهذا بدوره هو السبب الذي أدى به هو إلى التوقف عند الحياة الدينية العادية ودراستها دراسة علمية أكاديمية. وعليه فإن هذه الدراسة يقول المحاضر موجهة بحكم طبيعتها إلى جمهور ضيق من أهل الاختصاص وبالتالي فإن بعض المفاهيم المستعملة فيها قد تستغلق على فهم غير المتخصصين في المجال لأنها تنتمي إلى براديغم محدد.وقال إنها ثمرة لبحث ميداني أجراه على عينة من المجتمع المغربي وليست مجرد تأملات نظرية منفصلة عن الواقع.وأشار إلى أن أحد المفاهيم المحورية في الدراسة هو مفهوم الـ (world view) أو "النظرة إلى الكون" وهو مفهوم مستوحى من السوسيولوجيا الفيبرية (سوسيولوجيا ماكس فيبرMax Weber) ويعني ذلك المفهوم مجموع التصورات والتمثلات والإدراكات التي تحملها جماعة معينة حول الطبيعة والمجتمع. والنظرة إلى الكون هي مفتاح فهم واقع واستراتيجيات جماعة معينة. وباختصار فقد اعتمدت الدراسة على دراسة كل الممارسات التي تكشف عن طبيعتها الدينية.
بناء على ذلك عرف الباحث عبد الغني منديب التدين تعريفا سوسيولوجيا وأنتروبولوجيا بأنه الكيفية أو الطريقة التي يعيش بها الناس معتقداتهم الدينية في حياتهم اليومية وبالتالي فالتدين هو كل ما يعتقد الناس أنه ديني ويتعاملون معه على هذا الأساس أي أن عالم الاجتماع وعالم الإناسة لا يميز بين تدين شعبي شفاهي وبين تدين أورتودوكسي كتابي.فهو يعتبر أن كل ما يعتبره الناس دينا فهو كذلك وهذا ما يسمى في القاموس السوسيولوجي الخاص بـ "التقاليد الدينية المحلية" و"التقاليد الدينية الرسمية" لأنه طالما أن هذه الطقوس والمعتقدات موجودة ويتجمع الناس حولها ويمارسونها فإن مهمة عالم الاجتماع هي أن يفهم دلالاتها ومعانيها والوظائف التي تؤديها وسط هذه الجماعة أي أن السوسيولوجي يركز على آليات الوجود وآليات الاستمرار لماذا وجدت هذه التقاليد المحلية ولماذا استمرت.فليس من مهام عالم الاجتماع وعالم الإناسة الخوض فيما هو إلهي وما ليس كذلك فتلك هي مهمة الفقيه واللاهوتي.
وأشار الباحث إلى أنه تعرض لدراسة كل الممارسات والطقوس التي تكشف عن طابعها الديني فقام في البداية بدراسة مختلف الممارسات الدينية اليومية من بسملة وحمدلة واستغفار..والممارسات الظرفية مثل الختان وغيره والممارسات الموسمية مثل الاحتفال بعاشوراء إلخ. وقد حاول الوقوف على الكثير من تفاصيل الحياة اليومية بما في ذلك الممارسات التي تسقط عادة من اهتمام الباحث لأن عالم الاجتماع في نظره لكي يستكمل فهمه للمجتمع لا بد أن يهتم بالتفاصيل وشبه عمل السوسيولوجي في دقته واهتمامه بالجزئيات بالتأليف بين قطع لعبة البازُل (puzzle) أو اللعبة التي تتكون من قطع عديدة متنافرة لا تصبح الصورة كاملة فيها إلا عندما ننجح في تركيب أجزائها المختلفة والجمع بينها بطريقة صحيحة فعلم الاجتماع هو علم التفاصيل بامتياز والحقيقة السوسيولوجية تكمن في هذه الأجزاء المتناثرة هنا وهناك وبالتالي لا يجوز للباحث السوسيولوجي أن يغض الطرف عنها وأن يستنكف عن دراستها وإلا فلن يستقيم المعنى ولن تكتمل الصورة.
وأشار الباحث إلى أن هناك عادة سيئة في التفكير و"حقيقة" تربينا عليها وترسخت فينا ونتوقف عندها كلما تحدثنا عن العلاقة بين الدين والمجتمع وهي أن الدين يؤثر في المجتمع لكن ليس في مقدورنا في المقابل أن نتصور أن المجتمع بدوره يمكن أن يؤثر في الدين فهل يكمن ذلك التأثير في إضافة نصوص أو أحكام و ما إلى ذلك ؟ الأمر هو على خلاف ذلك بالطبع فذلك التأثير يحدث من خلال فهم المجتمع للدين والممارسات المرتبطة به. فالمجتمع يفهم دينا وافدا عليه بخلفيته التاريخية، بجغرافيته وبعادات أهله وتقاليدهم والدين الإسلامي شأنه شأن باقي الديانات الأخرى لما دخل إلى هذه البلدان البعيدة عن شبه الجزيرة العربية لم يجدها أرضا خلاء بل وجد لديها قيما وممارسات وعادات وتقاليد نشأ عليها الناس وبالتالي لما جاء استقبله الناس ووجدوا فيه ضالتهم المفقودة ولكن كان هناك نوعا من التفاوض ونوعا من الفهم فكل مجتمع يفهم الدين حسب خلفيته المادية والاجتماعية والسحرية والخرافية إلخ فلو قارنا بين المجتمعات المسلمة في بعض القضايا المهمة والأساسية مثل المسألة الديمغرافية واستعمال موانع الحمل للتحكم في زيادة السكان لوجدنا تباينا في المواقف بين المجتمعات يعود إلى اختلافها في نظرتها إلى الكون ففي المغرب العربي عموما هذه المسألة مقبولة والدولة توزع موانع الحمل والناس يقبلون عليها ويستعملونها باسم الدين الإسلامي ولا يرون فيها أي تناقض مع أحكام الشريعة في حين أنه في مجتمعات إسلامية أخرى يعتبر ذلك منافيا للعقيدة وبالتالي يحرمون استعمالها. وهنا نكون إزاء مجموعتين إسلاميتين تتعاملان بمقاييس مختلفة مع قضية محورية وأساسية بالنسبة للمجتمعات وليست شيئا بسيطا: فما يسمى اليوم عند علماء الديمغرافيا بالانتقال الديمغرافي demographic transition يعتمد على قضية أساسية وهي أننا لا يمكننا تحقيق التنمية إلا إذا تحكمنا في الديمغرافيا ووجهناها لأن الديمغرافيا تشتغل وفقا لمتوالية هندسية في حين أن النمو الاقتصادي يشتغل وفقا لمتوالية حسابية :المتوالية الحسابية هي 2+2-4-6-8-10-12 في حين أن المتوالية الهندسية هي 2-4-8-16 وهكذا وعليه فإن الانتقال الديمغرافي هو شرط لازب كما يقول العرب في تحقيق التنمية..
هناك مسألة أخرى تقسم المسلمين هي مسألة المرأة ودورها في تقسيم العمل بين الجنسين فمثلا في بعض المجتمعات المسلمة يمنع على المرأة سياقة السيارة ويعتبر ذلك حراما ومنافيا للدين في حين أن في مجتمعنا المغربي هناك نساء يقدن الطائرات إذن نحن أمام قضيتين أساسيتين نجد أن كل مجتمع قبلهما أو رفضهما حسب مرجعياته التاريخية وموقعه الجغرافي إلى غير ذلك. فنحن في المغرب الكبير قريبون من أوروبا فمثلا المسافة بين المغرب وإسبانيا لا تزيد على 14 كيلومتر عبر البحر وهي أقرب مسافة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي والعربي وهذا فيه تأثير ما يسميه علماء الاجتماع بـ التثاقف l’acculturation فنحن إذن أقرب إلى تقنية الغرب وإلى تنظيم الغرب وإلى تخطيط الغرب وإلى تطويع الطبيعة التي عملها وأنجزها الغرب وبالتالي فنحن نستفيد من هذه الأشياء في حين أن هناك مجتمعات أخرى بحكم جغرافيتها هي مجتمعات صحراوية معزولة بعيدا عن المجتمعات الغربية وغيرها من المجتمعات التي تمتلك زمام التقنية والعلم. وعليه فإن الدين لا يؤثر فقط في المجتمع وإنما المجتمع أيضا يؤثر في الدين وهذا أمر قد نجد صعوبة في قبوله لكننا عندما نتعمق في الأشياء نجد أن هذه المسألة صحيحة وبديهية وسنجدها كذلك إذا ما غيرنا فقط من زاوية النظر التي ننظر منها إلى الأشياء.
وقد ذكر الباحث أنه قد ركز أيضا على الاختلاف في النظرة إلى الكون ما بين المغاربة والمسلمين بصفة عامة وما بين مجتمعات أخرى فنفس الإيمان الديني فيه اختلاف بين هذه الجماعة وجماعة أخرى فمثلا : كيف يدرك المسلمون الله كذات فاعلة فمثلا نحن عندما نرى المسيحيين فقد نعتبرهم كتلة واحدة والأمر على خلاف ذلك فالكاثوليكية مختلفة تماما عن البروتستانتية فالبروتستانتيون مثلا يعتقدون بأن الله هو الذي خلق الكون وأن هناك اليوم الآخر والحساب والعقاب ولكنهم يعتقدون بأن الله لا يتدخل في أحداث هذه الدنيا فماذا يقع من جراء هذه الفكرة البسيطة التي تبدو لا أهمية لها يصبح الخطأ بشريا والنجاح بشريا والصواب بشريا أي أنه عندما نخطئ نحاول أن نعرف أسباب خطئنا ونحاول تداركها وعندما ننجح نحاول أن نفهم ما هي أسباب النجاح ونعيد إنتاجها ونعيد توسيع دائرتها فالغوص في أعماق كل النظريات التي تناولت الأديان تبين بأن الإيمان الديني محايث للطبيعة البشرية ولا يمكن أن نتصور جماعة بشرية بدون دين فهذا أمر غير وارد تماما فالموضوع يتعلق فقط بطبيعة هذا الإيمان هل هو إيمان حيوي يجعل الناس يجتهدون ويبحثون ويبتكرون أم أنه يجعلهم متواكلين وخاملين تلك هي المسألة التي يتعين البحث فيها.
واختتم الباحث عبد الغني منديب حديثه بالإشارة إلى فكرة أخرى أساسية توصل إليها خلال مسيرته البحثية وهي أن الإنسان منذ أن وجد على الأرض كان المقدس (le sacré) دائما محايثا له فالإنسان بحاجة إلى ما هو مقدس ولا يمكن أن يعيش فقط مع ما هو دنيوي أو مدنس. إلا أن فكرة المقدس هي فكرة واسعة وعريضة ففي التاريخ البشري كله وتنوعه العقدي وانتمائه إلى تقاليد دينية مختلفة يأتي الديني دائما ويحاول أن يقنّن المقدس فالديني متأخر دائما من الناحية الزمنية عن المقدس فلما يأتي الديني في كل التقاليد الدينية الكبرى ويحاول أن يأخذ هذا المقدس ويقنّنه ويضع له حدودا فإن المقدس سرعان ما ينفلت من عقاله وسرعان ما يفيض عن جانبيه وعن ذلك الإطار الذي حاول الديني أن يحصره فيه فتظهر تقاليد محلية أخرى تستمد شرعية وجودها من تلك النواة التي تنتمي إليها وهو شيء طبيعي وموجود في كل المجتمعات وموجود في كل التقاليد الدينية. فمن بين الأشياء التي تنقص منظوماتنا التعليمية هي أننا لا نعرّف شبابنا وناشئتنا بالتقاليد الدينية للأمم الأخرى حتى يستطيعوا أن يقارنوا بين تقاليدهم الدينية الخاصة وبين التقاليد الدينية للآخر ليفهموا أن هناك نقاط التقاء ونقاط اختلاف بينها وبين التقاليد الدينية لدى الآخر وهذا هو ما يكسبهم القدرة على التعايش مع الاختلاف فلا يمكن أن نتصور بأن هناك ديانة واحدة تغطي وتنسحب على ستة مليارات من البشر الذين يؤثثون الكرة الأرضية اليوم فكل ديانة تعتقد أنها هي التي ستقوم بهذه المهمة لكن الواقع هو أن هذا التعدد وهذا الاختلاف سيبقى دائما والمشكل ليس في الاختلاف بل في تدبير الاختلاف وتقنينه فالتعايش وإعطاء الحق للآخر في أن يعيش خصوصا إذا كان هذا الآخر لا يمارس أية أذية تجاه الآخرين فحقه في الوجود وحقه في الاستمرار يجب أن يكونا مكفولين ومعترفا بهما من طرف الجميع فالاختلاف والتعدد هو شيء يعود إلى الطبيعة البشرية.
وبعد انتهاء محاضرة الضيف الزائر د. عبد الغني منديب التي تضمنت تقديمه لكتابه آنف الذكر قمت بالتعقيب على محاضرته وقد توجهت في البداية بالشكر إلى صالون الولي ولد محمودا الذي تعود على عقد مثل هذه اللقاءات واستضافة الإبداعات والقامات العلمية في الدول الشقيقة والصديقة في مجالات مختلفة .
وقد أشرت في البداية إلى أنني وجدت نفسي لأول مرة غير قادر على المشاكسة لأنني قرأت للباحث واستمعت إلى محاضرته وتابعته وهو يمارس عملية التفكير مثلما تابعه الجمهور الحاضر في الصالون وقلت إنه قد سحرني بلغته وبطريقته في التفكير لأنه عندما يفكر يفكر بطريقة جيدة وعندما يكتب يكتب بطريقة جيدة وعندما يتحدث يتحدث بطريقة جيدة وبالتالي لم أجد سببا لأبرر به وجودي في الصالون هذا المساء سوى تقديم قراءة داخلية أو بعض الملاحظات المقتبسة من قراءتي لجزء من الكتاب الذي هو موضوع هذه الحلقة الدراسية (الدين والمجتمع دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب).
وأشرت إلى أن الملاحظة الأولى التي أريد تسجيلها تتعلق بما أشار إليه الباحث في بداية حديثه من أن لديه طرقا متعددة لتقديم الكتاب وأنني فهمت فهما معينا ما كان يقصده بذلك فهو لم يقدم الكتاب بطريقته الأكاديمية المعهودة الموجودة على الانترنت وإنما قدمه بطريقة تتلاءم مع طبيعة الجمهور الحاضر هذا المساء الذي يضم بالإضافة إلى المتخصصين بعض الفقهاء والساسة.
وذكرت أنني عندما قرأت جزءا من الكتاب سرعان ما أدركت أنه يتعامل مع إشكالية التدين في المجتمعات المغاربية عموما وفي المجتمع المغربي خصوصا والمجتمع المحلي في منطقة دكالة في وسط المغرب بشكل أخص تعاملا من نوع خاص ووفقا لمنهجية علمية واضحة حيث اجتهد الباحث في تحديد حدود المفهوم المحوري في الدراسة وهو مفهوم التدين بشكل دقيق حتى لا ينظر إلى هذه المعالجة على أنها تدخل في سياقات أو في إشكاليات أخرى قائلا إن التدين هو الطريقة التي يعيش بها الناس معتقداتهم الدينية في حياتهم اليومية ... ومن الواضح أن تعريف التدين بهذه الطريقة يخرجه من تلك المقاربات التي تنطلق من بعض المرجعيات العمودية المتعلقة حصرا باللاهوت والمقدسات لكي يجعله واقعا معيشا الآن وهنا وهذا يعني نوعا من الالتباس والتداخل بين التمثلات الدينية والممارسات الاجتماعية العادية أي بين النظرة العامة إلى الكون وبين التجربة المعيشة في سياق اجتماعي محدود بإطاري الزمان والمكان.ولذلك فإن تحديده للتدين بهذا المعنى يضفي عليه نوعا من المسحة الوضعية بالطبع النزعة الوضعية بداياتها أو إرهاصاتها الأولى قديمة في الحقبة اليونانية خصوصا مع الفيزيائيين الأوائل ولكنها تجسدت بشكل فعلي في فلسفة أوجست كونت الاجتماعية وحتى مع دوركهايم .ولذلك فإن تفسير الطبيعة بالطبيعة وتفسير الاجتماع بالاجتماع هو من مزايا هذه النظرة أو المسحة الوضعية التي نجدها في تحديد مفهوم التدين لذا فإنه عندما يتحدث الباحث هنا عن التدين باعتباره ظاهرة اجتماعية يفسره بالعودة إلى المرجعية الاجتماعية وليس بالعودة إلى المرجعية اللاهوتية أو المرجعية الدينية بما هي كذلك. فلذلك حاول الباحث بهذا التحديد أن يستبق الكثير من ردود الفعل والأحكام المسبقة التي تثيرها هذه المقاربة وخصوصا لدى الجمهور غير السوسيولوجي.
بناء على ذلك قسم الباحث التدين إلى طائفتين أو مجموعتين من الأفكار هي التمثلات والممارسات وتكمن إحدى نقاط القوة في هذا الكتاب في أنه لم يتصور هذه التمثلات أو التصورات أو ما يسمى بالنظرة العامة إلى الكون عند المجتمعات المغاربية منفصلة عن الظواهر الاجتماعية وعن حياة الشعوب ، عن نسق التمثلات المرجعية للأفراد والجماعات في بيئات مختلفة ولدى شعوب مختلفة لذلك نجد هذا الارتباط الوثيق أو العلاقة التبادلية بين التمثلات من جهة وبين الممارسات من جهة أخرى بحيث لا توجد تمثلات مفصولة ومقطوعة عن الواقع الاجتماعي وعن الممارسات اليومية ومن هنا نجد هذا الطابع الوضعي الاجتماعي للدين .
فيما يتعلق بالتمثلات تحدث الباحث عن ارتباطها عند المغاربة بموضوعات ثلاثة من موضوعات للتفكير السوسيولوجي هي الله كقوة مشاركة وليست مفارقة، والدنيا كمجال للتفاوت، والصلاح كأساس للنجاح الاجتماعي.
أما الممارسات فيقسمها إلى ممارسات دينية يومية وممارسات موسمية وممارسات ظرفية وهذه بشكل عام هي إحدى الأفكار المحورية في الكتاب الذي يتكون من قسمين قسم نظري قام فيه الباحث بجرد الدراسات الانتروبولوجية أو ما يسمى بالانتروبولوجيا الاستعمارية أو بعلم الاجتماع الاستعماري حول المغرب حيث تعرض بالتحليل لهذه النظريات ثم قدم بعد ذلك قراءته النقدية لها وبيّن الثغرات والعيوب التي تضمنتها أما القسم الآخر فهو القسم الميداني الذي قام فيه الباحث بدراسة ميدانية على أحد المجتمعات المحلية في وسط المغرب هو المجتمع المحلي بمنطقة دكالة دراسة استخلص منها جملة من الاستنتاجات المفيدة التي عممها على المجتمع العام بالمغرب وعليه نجد هذا التكامل والترابط المحكم بين الإطار النظري والجانب الميداني في هذا الكتاب.
واختتمت حديثي بالتعليق على قضيتين من القضايا التي استرعت انتباهي عند قراءتي للكتاب :
القضية الأولى هي نقد الباحث لأطروحة البقايا الوثنية وهي الأطروحة الأساسية التي تنتهي إليها مجمل نظريات الانتروبولوجيا الاستعمارية فلماذا القول بالرواسب الوثنية ولماذا قراءة الذهنية الاجتماعية للمغاربة وخاصة من منظور التدين على أنها مشبعة بالبقايا الوثنية الموروثة عن تقاليد شعبية سابقة على دخول الإسلام ؟ خلاصة هذه الأطروحة هي أن الإسلام عندما جاء إلى المغرب العربي وخاصة إلى المغرب لم يستطع أن يتغلغل في البنيات الاجتماعية وبقي وجوده محصورا على مستوى السطح لماذا لأن هناك شيئا ما يملأ ذلك الفراغ الذهني وهو العقائد والتصورات الوثنية القديمة التي تعود إلى التراث البربري أو العربي الجاهلي وحتى المتوسطي.هذه النظرة للكون ظلت ملازمة لشعوب المنطقة حتى مع انتشار العقائد التوحيدية التي جاء بها الإسلام . وفي تقديرنا أن هذه القراءة لا يمكن استبعادها تماما مثل ما فعل الباحث بل يمكن تعميم جزء منها على الأقل على بعض المجتمعات المغاربية نظرا لاشتراكها في أمور كثيرة لكننا مع ذلك لا نسلم بها كما هي وتتمثل طرافة الموقف عند الدكتور عبد الغني في قوله بأن الانتروبولوجيا الاستعمارية مررت أطروحة الرواسب الوثنية لأغراض أيديولوجية بعيدة كل البعد عن التحليلات العلمية الموضوعية ويتعلق الأمر بتبرير الرسالة الحضارية للاستعمار.ولكن تبرير الظاهرة الاستعمارية ووجوب الرسالة الحضارية للشعوب المستعمرة في الانتروبولجيا الاستعمارية لا يكفي في نظرنا لدحض أطروحة البقايا الوثنية لأن في هذه الأطروحة على الأقل شيئا من الصواب في ضوء الأطروحة الأساسية التي سعى الباحث إلى إثباتها وهي أن التدين نفسه متجذر في حقل الممارسات الاجتماعية وفي الواقع الاجتماعي بكل ثرائه وتنوعه فالتدين نفسه جزء لا يتجزأ من الممارسات الاجتماعية والممارسات الاجتماعية جزء لا يتجزأ من التدين. هذه الأطروحة عندما نطبقها مثلا على بعض المجتمعات المغاربية باستحضار بعض الأمثلة المستمدة من تاريخ المنطقة وخصوصا الجزائر وموريتانيا نجد أنها تتضمن شيئا من الصواب فنحن نعرف أن من أسباب هزيمة جيش عقبة بن نافع والمعارك التي خاضها ضد البربر في الجزائر هو قوة العصبية عند القبائل البربرية ومناهضتها للإسلام وتشبثها بقائدها الوثنية القديمة وحتى بعد استتباب الأمر للإسلام في تلك المناطق ظلت هناك العديد من ردود الفعل الرافضة له فيما يشبه الحنين إلى العقائد السابقة . كما نعرف أن الإسلام دخل إلى بلادنا على مراحل تخللتها فواصل من الردة أو الإسلام المشوب ببعض النزعات الوثنية وهو أحد الأسباب التي أدت إلى تشكل حركة المرابطين في موريتانيا في بادئ الأمر كحركة دعوية إصلاحية هدفها تصحيح العقائد والقضاء على الرواسب الوثنية التي ظلت مقاومة للإسلام في صورته النقية الصحيحة. وعليه فلكي يحصل هذا الانسجام بين المنطلقات الفكرية والاستنتاجات العلمية التي توصل إليها الباحث نرى أنه يتعين الإبقاء على جزء ما ولو يسير من أطروحة البقايا الوثنية وتبرير ذلك الجزء تبريرا علميا وعقلانيا وليس تبريرا أيدويولوجيا فحسب كما هو الشأن في الانتروبولوجيا الاستعمارية .
القضية الثانية هي أن هذا الكتاب يملأ في الواقع فراغا علميا كبيرا ظلت تعاني منه الانتروبولوجيا العربية بعد تجاوز مرحلة الانتروبولوجيا الاستعمارية.وهو في الحقيقة محاولة للخروج من فكي الإحراج : إذ لم يكن أمامنا كمجتمعات مسلمة في المغرب العربي بصفة عامة وفي القطر المغربي بصفة خاصة سوى خيارين : فإما الركون إلى أطروحات الانتروبولوجيا الاستعمارية ووريثتها المباشرة وهي الانتروبولوجيا الانجلوسكسونية حول المغرب خصوصا والتي كما رأينا تغلب فيها النزعة التبريرية على التحليل العلمي الرصين وإما الخواء أو اللاعلم . هذا الكتاب في الحقيقة ساهم في ملء ذلك الفراغ وأرجو أن يكون هذا العمل نواة صلبة لجيل جديد من الانتروبولوجيين العرب يساهم في توطين هذا النمط من الدراسات وتأصيله في دائرة العلوم العربية.
بعد ذلك تتالت مداخلات الزملاء الأستاذ أبو بكر ولد أحمد والأستاذ محمد محمود ولد سيدي يحي ود.يحي ولد البرا ود.عبد الله ولد السيد والأستاذ محمد ولد احمياده قبل أن تعود الكلمة إلى الدكتور عبد الغني منديب ليقوم بالرد على المسائل والاستفسارات التي تضمنتها مداخلات الحضور.