أحاول في هذه الورقة إثارة نقاش هادئ ومسؤول حول موضوع "الإرث الإنساني". لا أقترح حلا للمسألة ولا يمكنني ذلك، ولكني آمل أن أفتح الباب أمام مناقشة الحل بجدّية وصدق وصراحة.
——————————————————
على مدار تاريخنا عرفنا فترات جزر وتراجع. ومررنا بمطبات ومنعطفات صعبة. وزلّت أقدامنا كلما ابتعدنا عن قيمنا الأصيلة وموروثنا الثقافي المشترك. و انزلقنا كلما غابت عنا قيّم المرونة والتسامح، ونسينا من نحن، وماذا نريد، وماذا يجب أن نكون.
ولهذه الأسباب، فإن مسار الدولة الموريتانية لم يخلُ في أي عهد من العهود من أخطاء فادحة وإخفاقات وهفوات. ومن جراء ذلك، عانى الشعب بجميع فئاته ومكوّناته مرارة الظلم والقمع والتنكيل. وتعرض للعنف والاستبداد، والمحاكمات الصورية، والتعذيب، والسجن خارج القانون، إلخ. لم تنجُ المؤسسات المدرسية، والاقتصادية، والثكنات العسكرية من عمليات القمع.
وفي هذا السجل، تُعد أحداث 89-91 هي الأكثر ضررا وإضرارا، والأكثر تأثيرا وإثارة للمشاعر في مسار دولتنا الحديثة. أثرت بعمق في وجدان الشعب بأسره. مرت الآن ثلاثة عقود، وما زالت تلك الأحداث تربك الأذهان، وتسمم الأوضاع، وتعرقل الوحدة الوطنية.
لا توجد كلمات لوصف الألم والمعاناة التي خلفتها في صفوف الشعب بجميع مكوناته. ولا فرق في ذلك بين من يعتبرها قمعا عرقيا واستهدافا لمكون شعبي بذاته، وبين من يعتبرها عمليات لحفظ الأمن والنظام داخل ثكنات الجيش.
الكلّ يشعر بالحزن والألم إزاء ما حصل. والكل يطالب بتصفية هذا الإرث، ويعبر عن ذلك بطريقته. ولكن كيف نعالج الموضوع؟ كيف نصلح أضرار الماضي؟ وهل هي قابلة للإصلاح أصلا؟ وبأي طريقة: جنائية أم مدنية؟ وماذا عن العدالة الانتقالية؟
هذه الأسئلة ليست مطروحة علينا وحدنا، بل تتصدر عناوين البحوث والدراسات في شتى أنحاء العالم. وتعكس وعيا عالميا بثقل التاريخ، وضرورة "جبر" أضراره، وبناء علاقة جديدة مع الماضي. وخلافا لما يعتقد البعض، فإن القضية هنا لا تتعلق بالتاريخ أكثر مما تتعلق بالحاضر وإصلاحه. نحن وغيرنا من شعوب العالم لا يمكننا استدراك الماضي وما فيه من ظلم وعنف؛ ولكن يمكننا، بل يجب علينا معالجة الحاضر وإصلاح العلاقات الحالية بين أفراد ومكونات مجتمعنا.
وفي هذا المجال، مجال التعامل مع أضرار الماضي، مرّ العالم بمراحل مختلفة، كان آخرها في نهاية التسعينيات مع مفهوم "العدالة الانتقالية" وظهور لجان "الحقيقة أو الإنصاف والمصالحة" في أكثر من 30 دولة، أذكر منها جنوب افريقيا والمغرب وروندا، الخ..
ومهمة هذه اللجان لم تعد المعاقبة الجنائية كما كان في السابق، بل تخفيف الاحتقان وإفراغ جيوب الألم والمرارة والحيلولة دون تكرار الماضي. وهو توجه عالمي يرفع شعار "المصالحة" عنوانا بارزا لمعالجة أضرار الماضي، وطريقا سالكا لبلوغ الهدف المنشود، وهو: صنع السلام وإعادة بناء مجتمع سياسي طبيعي. ولذلك، تسمى العدالة "الانتقالية" عدالة "إعادة البناء" لأنها مصممة كأداة لضمان العودة إلى الوحدة والوئام.
ومنذ 20 سنة تقريبا انتقل العالم إلى مرحلة جديدة ، هي مرحلة "إصلاح" الأضرار و"جبر" الكسور مباشرة. ويتخذ هذا الإصلاح 3 أشكال: شكل رمزي، وشكل مادي، وشكل سياسي.
- الإصلاح الرمزي: ويعمل على تجاوز الأحداث التاريخية بمبادرات وإيماءات تعبر عن الندم والالتزام بعدم تكرار ما حصل.
- الإصلاح المادي: ويسعى إلى التعويض المالي عن أضرار الماضي.
وشهد العالم في السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في هذا النوع من المقاربات.
- الإصلاح السياسي: ويبحث عن وسائل ملموسة وعملية للقضاء بشكل تدريجي على آثار ومخلفات المظالم الماضية.
والجديد في هذا النهج أنه لم يعد يتخذ القانون الجنائي مرجعا له، ولم يعد يجعل العقوبة هدفا له، بل يتجه أساسا إلى الحلول المدنية بهدف الإصلاح من خلال التعويض المعنوي والمادي عن الأضرار السابقة.
* وبالعودة إلى موريتانيا ومعالجة قضية "الإرث الإنساني"، لقد قامت الدولة فعلا بلفتات قوية منذ عام 2007، تمثلت في اعتراف رئيس الجمهورية بالمعاناة التي لحقت بضحايا الأحداث، وتقدم بما يشبه الندم والاعتذار في خطاب رسمي صريح بتاريخ 27 يونيو 2007، وبادر بتصحيح الأخطاء بدءا بعودة أفواج اللاجئين يوم 8 يناير 2008، وانتهاء بإنشاء وكالة خاصة لإعادة دمجهم في الحياة النشطة.
وفي يوم 25 مارس 2009، أقامت الحكومة بحضور رئيس الجمهورية "صلاة الغائب" ترحما على أرواح المفقودين.
وفي 2020-2021، بدأ التشاور بشكل جدّي حول التعويض المالي. هذه كلها خطوات إيجابية ومهمة، ولكنها تترك الشعور بعمل غير مكتمل. ولذلك، يجب توطيدها وتعزيزها بفعل إنساني وسياسي شفاف يستهدف جبر القلوب والخواطر.
وقد أظهر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني عزمه على ذلك عندما جعل من هذا الموضوع عنوانا بارزا من عناوين الحوار الوطني المؤجل إلى حين.
ويمتلك فخامته بحكم اعتداله ورزانته وإيمانه بقيمة الحوار وفضيلة الانفتاح، من المقدرات ما يؤهله لمواصلة العمل على هذا الملف وتسويته وإغلاقه بشكل مرضي. وسيكون من الأهمية بمكان إنشاء لجنة "إنصاف وإصلاح" تحت رعايته السامية تعمل على:
- إلقاء الضوء على الأحداث بطريقة هادئة ومسؤولة تراعي المصلحة العليا للوطن في الوحدة والوئام؛ لا تؤجج الجروح ولا تشعل العواطف والمشاعر.
- إفشاء روح السلم والسلام والصلح، وتهدئة القلوب والأنفس، وإيجاد الوسائل والطرق المناسبة لإصلاح الأضرار النفسية والعاطفية التي لحقت بالعائلات المعنية.
- جبر الضرر: التعويض الكامل والفعال لضحايا الأحداث وعائلاتهم من خلال استرجاع الحقوق، وإعادة التأهيل، والترضية، وضمان عدم التكرار.
- استئناف عملية التشاور مع أصحاب الحقوق لإكمال عملية التعويض المالي بنجاح.
إن هذا النهج - برأيي المتواضع- هو الأفضل لمعالجة هذا الملف وغيره من حالات المظالم والأضرار التي قد تعرض على اللجنة، وتصحيح الأخطاء وإنجاز مصالحة الدولة الموريتانية مع ذاتها ومواطنيها.
- ختاما، قد يقول قائل إن هذا الطرح خيالي وخطير، ومغامرة وقفزة إلى المجهول؛ أو أنه مستحيل الإنجاز ومكلِّف التنفيذ. وقد يقول آخر بأن لا خير في نبش الماضي، وإيقاظ الألم المدفون، وإثارة حرب الذكريات والنعرات. وقد يقال بأن الدولة فعلت ما تستطيع في هذا الملف، ولم تحرك ساكنا في المظالم الأخرى وأحداث العنف ضد الطلاب والتلاميذ والعمال وغيرهم من فئات المجتمع.
هذا كله وارد، ولكن الحالة العامة في البلاد تستَوجب - وبإلحاح - حل هذه المشكلة بالذات. الحقيقة واضحة: من 1992 إلى يومنا هذا، فإن نتائج جميع الانتخابات التي أجريت في البلاد تُظهر أن الاغلبية العظمى من السكان - من "غابو" إلى "اندياگو" مرورا بجميع البلديات والمقاطعات وعواصم الولايات على طول النهر، إلى الأحياء الشعبية في "نواكشوط" و"نواذيبُ" و"ازويْرات"،،، يصوتون دائما و دَوما ضد مرشح النظام. إنها رسالة واضحة يبعثون بها منذ 30 عاما دون انقطاع عبر صناديق الاقتراع؛ مفادها أن: انصفوا و اصلحوا و صالحوا!
والله ولي التوفيق.