بالأمس كنا نُعرف عند الكثير من أشقائنا في المشرق بالعلم والريادة بفضل ما نشره علماؤنا الأجلاء من العلم والمعرفة في تلك الأصقاع لكي يوفروا لنا لدى شعوب تلك المنطقة وغيرها أعز ما يمكن لشعب بدوي معزول وغير معروف أن يملكه :الكرامة والاحترام..أما الآن فقد سلف أولئك العلماء العاملون وخلف من بعدهم "خلفهم" : الخادمات العاملات..
والحال أن الكرامة هي كل شيء في حياة الأمم والشعوب،فالشعوب لا تناضل من أجل الحصول على أقواتها بل من أجل الحصول على حريتها وكرامتها وعندما تفوز بحريتها وكرامتها تناضل من أجل خلق فائض في القوة والثروة يسمح لها بالحفاظ عليهما معا.فإن زال ذلك القدر من القوة والثروة الضروري لحفظ الكرامة احتاجت مرة أخرى إلى أن تناضل من جديد من أجل حريتها وكرامتها وهكذا دواليك.
لكن الشعوب عندما تتخلى طوعا عن كرامتها فلن تنفعها ثروة ولو جمعت منها الكثير. ولولا خوفنا من التجريح والتعريض ببعض الدول الشقيقة والصديقة لبسطنا القول في هذا ولقدمنا فيه بعض الأمثلة الصحيحة الصريحة.
لقد كان في مقدور أشقائنا في المملكة العربية السعودية القيام بأشياء كثيرة ليعوضونا بها عن خسارتنا لمليارات الدولارات القطرية(حوالي 5 مليارات تقريبا) غير استيراد الخادمات العاملات في البيوت مع ما يتضمنه ذلك من احتمال حصول انتهاكات خطيرة لدينهن وعرضهن الذي هو ديننا وعرضنا.
كان في مقدور إخوتنا في المملكة تعويض العقود الممتازة المتعلقة بعمالة الصنف الأول كالباحثين والأساتذة الجامعيين والقضاة والإعلاميين وغيرهم والتي باتت مهددة بعد قطع العلاقات مع قطر. وكان في مقدورهم أيضا إبرام اتفاقيات اقتصادية مهمة مع موريتانيا وأن يمنحوها لا ما تستحقه في نظري من وضع الدولة الأُوْلى بالرعاية بفضل علاقات القرابة الخاصة التي تربطنا مع رأس الأسرة الحاكمة،وإنما على الأقل نفس المعاملة التي تمنحها لجيراننا كالمغرب والسنغال وتونس خصوصا إذا علمنا أن الاستثمارات السعودية في المغرب قد تجاوزت خلال عامين فقط بليوني دولار (2.1 بليون دولار) ومازالت المملكة المغربية تسعى للحصول على المزيد كما أن السعودية تمول العديد من المشاريع الكبرى في السنغال في مجال الطرق والفنادق والصحة والزراعة وفي تونس بلغت الاستثمارات السعودية المباشرة سنة 2013 م ما يناهز 1.5 ريال سعودي بالإضافة إلى إعلان الصندوق السعودي للتنمية في السنة الماضية عن نيته تقديم قروض ومساعدات لتونس بقيمة 800 مليون دولار.وبدون أن نقلل من قيمة ما قدمته المملكة العربية السعودية لموريتانيا إلا أنه لا يزال بعيدا عن حجم المساعدات المقدمة لجيراننا.
صحيح أن المرء يرزق على قدر همته، وأن حجم الاستثمارات يتوقف على شروط وعوامل كثيرة مثل ملائمة البنى التحتية كالطاقة،والبنية الاقتصادية (مدى سعة الاقتصاد وقدرته على استيعاب الاستثمارات الكبيرة) ومناخ الاستثمار إلخ..لكن مع ذلك تبقى لدى البلدين بدائل كثيرة للتعاون غير المخاطرة بأعراض حرائرنا في ظل الانتهاكات التي تعرض لها في حالات سابقة بعض الخادمات الموريتانيات وغيرهن في بعض دول الخليج مما هو محفوظ بالصوت والصورة على صفحات الانترنت. هل هناك دولة عربية أخرى ترسل رعاياها بقرار رسمي إلى دولة أخرى ليكونوا خدما فيها غير موريتانيا ؟ ماذا سيكون شعور الواحد منا لوعلم بأن كريمته أو كريمة أي من "السادة" السابقين تعمل خادمة في بيت سعودي أو غيره بداعي الحاجة ؟! فكروا في هذا الأمر بهدوء.
كان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد رحمه الله يمنع العمالة العربية من ممارسة بعض المهن في دولة الإمارات مع حاجتهم الشديدة إليها احتراما للأمة التي ينتمي إليها وكأن لسان حاله يقول :إما أن أساعدهم كما ينبغي أن تكون المساعدة أو أن أحترم كرامتكم كإخوة أشقاء لا أرضى لهم ما لا أرضاه لشعبي !
لذلك فإنني أدعو خادم الحرمين الشريفين إلى إلغاء هذا الاتفاق الذي وإن قبلناه من غيره فإننا لا نقبله منه وبيننا ما بيننا من أواصر القربى والرحم. ما نحتاجه منكم سيدي جلالة الملك هو صرف منح لبناء المختبرات في جامعتنا الفتية وتوجيه جزء من الاستثمارات السعودية إلى هذا الجانب المفقود كليا في تعليمنا العالي لكي يكون في مستوى عال من الجودة شبيه بما هو موجود في جامعة الملك عبد العزيز.. ما نحتاجه منكم سيدي جلالة الملك هو تمويل برنامج شامل لإصلاح التعليم الأساسي والثانوي ومعالجة التسرب المدرسي وآثاره خصوصا في آدوابه والأحياء الفقيرة في أطراف المدن الكبرى ومعالجة الفروق الحاصلة في هذا المجال داخليا بين فئات الشعب وخارجيا بيننا وبين جيراننا في الشمال والجنوب على حد سواء.. ما نحتاجه منكم سيدي جلالة الملك باختصار هو استثمارات ضخمة ذات مظلة اجتماعية وذات عوائد اقتصادية واجتماعية واضحة على الفئات الأكثر هشاشة في البلد،ومشاريع موجهة لاستئصال الفقر في مناطق الظل نقبلها حتى ولو كانت بإشراف سعودي حتى لا تتكرر التجارب السابقة.
وفي الحقيقة فإن مشكلة الخادمات العاملات وما تثيره الآن من ردود فعل قوية لدى بعض منظمات المجتمع المدني مثل الكثير من المشكلات الأخرى العويصة هي انعكاس لمشكلة أكبر تتعلق بالإرث الإنساني للعبودية.وحتى وإن لم يكن من الجائز حصر الخادمات في عرق واحد بعينه من الأعراق المكونة لمجتمعنا إلا أن ذيوعها بحكم الثقافة في شريحة معينة من المكون العربي على الأقل يجد تفسيره بانعكاس الفقر الناجم عن آثار العبودية وهو ما جعلنا نصف الفروق الاجتماعية الناجمة عنها بالفروق الجوهرية الضرورية التي من شأنها أن توجد والتي تختلف عن أنواع الفروق الأخرى العرضية التي قد توجد وقد لا توجد في باقي الشرائح الأخرى وبالتالي لا تخضع لمبدأ الحتمية وهذا ما جعل الحديث عن الخادمات العاملات يقترن بالحديث عن آثار الرق واستتباعاته وخصوصا سوء توزيع الثروة.
السؤال الآن هو : أين نصيب هاته النسوة من الثروة الوطنية ؟ وما السبيل إلى حصولهن عليه والتمتع بحياة كريمة في بلدهن ؟ لماذا لا تستفدن من مبدأ التمييز الإيجابي للنساء المعمول به في موريتانيا؟ الجواب بسيط لأنهن لسن في وضع يسمح لهن بالاستفادة منه فهن في الغالب أميات لا تتوفر لديهن مؤهلات علمية وهي نتيجة طبيعية للفشل الدراسي والتسرب المدرسي الذي هو حليف أبناء الأرقاء السابقين.
هذا الأمر يعيدنا إلى مسألة طالما تحدثنا عنها وهي استحالة اجتثاث الإرث الإنساني للعبودية في موريتانيا بشكل كامل دون التطبيق الصحيح الواعي لمبدأ التمييز الإيجابي. وفي تقديرنا أنه ما لم يحدث تناغم بين الوعي السياسي والمدني السلمي بهذه المشكلة وبين الإرادة السياسية لمن بأيديهم مقاليد السلطة في البلد وهو ما لم يحدث أبدا في تاريخ البلد فلن يكون ذلك الحل ممكنا.فعندما يصل الوعي الحقوقي والمدني إلى ذروته عند "المعنيين" بالقضية كما هو حاصل الآن يكون لدينا تراجع خطير في الإرادة السياسية وعندما تكون هناك إرادة سياسية قوية وصادقة لاستئصال المشكلة كما حدث في عهد الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله لم يكن هناك وعي سياسي مدني كاف عند "المعنيين" بها وخصوصا لدى الفرقاء السياسيين لفرض التغيير المنشود.
وفي تقديرنا أن التمييز الإيجابي لهذه الشريحة عامة ولنسائها العاملات خاصة وللنساء العاملات في الشرائح الأخرى بصفة عامة يكمن في دعم مباشر للنشاط الذي يشتغلن به في العادة أوفي خلق مهن جديدة أكثر تطورا من خلال إنشاء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة (PME) وبناء أسواق حديثة للسمك في جميع الأحياء وأخرى للخضراوات وتوفير الأدوات لتطوير الصناعات الغذائية (مثل الكسكس المحلي) والخياطة وصناعة الملابس وإنشاء مجمعات مجهزة للصناعات الحرفية (الصباغة والدباغة والتطريز وأمور الزينة وغيرها)كل ذلك عن طريق منح القروض الميسرة وطويلة الأمد كما يمكن أيضا العمل على اكتتاب النساء العاملات على نطاق واسع في ميادين النظافة بالمؤسسات العمومية وخصوصا التعليمية هذا بالنسبة للنساء العاملات في الوسط الحضري.أما بالنسبة للنساء العاملات في الوسط الريفي فعلى الرغم من أن معاناتهن أكبر نظرا لقساوة ظروف العيش في الريف إلا أن متطلباتهن أقل وفقا للقانون الخلدوني لأنها تقتصر على الضروريات ولا علاقة لها بالكماليات. لذلك فإن أول خطوة يتعين القيام بها في إطار سياسة التمييز الإيجابي هي إحصاؤهن بشكل دقيق وتوزيعهن إلى تعاونيات زراعية حقيقية تحت إشراف رسمي من الإدارة المحلية وتزويد كل تعاونية بسياج لحماية المزروعات وبئر ارتوازية مزودة بمضخة للري بالنسبة لزراعة الخضروات وتوفير الأسمدة والبذور بأسعار رمزية بالإضافة إلى تخصيص مرشدين زراعيين لمساعدتهم وتشجيع جميع التعاونيات بشراء منتجاتهن الزراعية بأسعار تشجيعية لخلق جو من التنافس وسترون كيف ستكون النتيجة.
ولضمان نجاح هذه التجربة المقترحة واستمراريتها لا بد من إقامة نظام ضريبي فعال وآلية خاصة للرقابة المالية بشكل يضمن للخزينة العامة استرجاع الأموال التي تم صرفها بالطرق الصحيحة كاملة غير منقوصة وإلا فسيكون مصير تلك الإجراءات كلها هو الفشل كما هو الشأن في الكثير من المشاريع المماثلة.