لَمْحَةٌ ضَئِيلَةٌ..
حدثني قبل ليال قليلة عن تعلقه بأوقات الأسحار، وحبه إياها، وأن من بركاتها نضجُ ما يرد عليه من شعرٍ فيها، فشاء الله أن يقبضه سحرا من يوم الجمعة..
لم يكن الشيخ ولد بلعمش رحمه الله يحمل قضايا الأمة فقط، بل كان يحمل قضية كل إنسان يسمع عنها، ويرى نفسه معنيا بها، ويلزمه موقف منها عليه أن يسجله..
كان يقول لي: "حين يضيق صدري بهذه الهموم أرجع إلى القرءان، فأجد فيه طمأنينة وراحة بال"، وجدتُ في آخر حديث له على العام - في مجموعة: 'حدائق العقول' - التي شرفتها بإضافته - مصداق ذلك، فقد ختم حديثه بقول الله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"..، وقد سجل إضافتي له إلى هذه المجموعة، شعرا، في إحدى المساجلات الظريفة، فقال:
دعاني إليها أحمد فأجبته -- فراسة قاض مبصر بالدقائق
فكانت لقلبي في الظلال سعادة -- وأتحف عقلي أهلها بالزنابق
فتح لي الشيخ منذ عرفته قلبه، فحدثني في كل شيء، وعن كل شيء، ودخلت حتى في شؤونه الخاصة، وكان رجلا صادقا عفيف اللسان والجوارح، على خلق رفيع..
يعرف كثيرون الشيخ الشاعر الملتزم، لكن البعض لا يعرف الشيخ الثاني: الشيخ اللطيف الذي لا يؤذي أحدا، الشيخ المسامح الذي يُقطع كلامه معك في معرض العتب على من أساء إليه بقوله: "اشهد علي بأني أسامح كل من يقول لا إله إلا الله، ولا أحمل حقدا لمسلم"، الشيخ المتواضع، الشيخ الكريم الذي لا يستبقي شيئا، الشيخ البر بوالدته وأهل بيته، وبكل الناس، الشيخ صفي السريرة، عميق التَّدَيُّن، صادق المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، الشيخ الذي لا يطوي قلبه على غل لأحد، ويحب الخير للجميع..
اتفقتُ مع الشيخ في أشياء، واختلفنا في أشياء أخرى، فكان طعم الخلاف معه أحلى من طعم الاتفاق، لما يتأصل في نفسه من حسن الظن بالآخرين، واحترام ذواتهم ومواقفهم وآرائهم، ورؤيته لفضلهم عليه، وإن كان الواقع العكس..
حدثني في آخر حديث بيننا عن رغبته في تخصيص جزء من وقته لإعادة قراءة القرءان، وعزمه على إجادة حفظه، وعلى دراسة الفقه دراسة مركزة، هدفه منها تصحيح عبادته، وأكد عليَّ في نفس الحديث: "هذا هدفي الأساسي الآن: القرءان روح المسلم والفقه قوام عمله"، وطلب مني توجيهه بما يسهل ذلك، وختم حديثه إليّ قبل منتصف ليل الجمعة بدقائق بدعاء جميل، وتلك عادته..
حدثني يوم السبت الأخير له، أن الكلمة في هذا الزمن ضعيفة التأثير، وأن الأقلام تكسرت في واقع الأمة، تمادى بِنَا الحديث، فقلت له إن ضعف تأثير الشعر في الأمة دليل على أنها تعبر مرحلة انحطاط سحيقة، وسُقت له أمثلة حتى وصلت قول أبي الحسن الجزار:
كيف لا أشكر الجِزارة ما عشـ - - تـ حفاظًا وأهجر الآدابا
وبها صارت الكلابُ ترجيـ - - ـني وبالشِّعر كنت أرجو الكلابا
أضحكه القول، ووضع يده في يدي، وقال: وقفت أخيرا على أبيات للشاعر أبي بكر يحيى بن بقيّ القرطبي الأندلسي، أعجبتني، لدقة تعبيرها عن الواقع، ومنها:
ما العيش بالعلم إلا حيلة ضعفت - - وحرفة وكلت بالقعدد البرم
لا يكسر الله متن الرّمح إن به - - نيل العلى وأتاح الكسر للقلم
ولا أراق دماً من باسل بطل - - ومات كل أديب غبطة بدم
وقدر الله أن ينكسر قلم الشيخ، ويجف حبره، وتسكت كلمته، حسرة على دماء المسلمين، وأزماتهم، وأزمات وهموم الإنسان في هذا الزمن الذي يقول إنه لا يفهمه..
كأَنَّ الْمَنايَا تَبْتَغى فِي خِيارِنا - - لَها تِرَةً أوْ تَهْتَدِي بِدَليلِ..
لم يكن الشيخ يعاني من مشاكل صحية، لكنه لم يكن منتبها لصحته، وكان منهمكا في تحمل مواجع الأمة، وهموم كل الناس، كأن به جرحا ينزف..
لكل أجل كتاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، غصتي بالحزن كبيرة، عقدت لساني وبناني، ومازلتُ حبيسها، ولا أطيق إلا الدعاء بِالحَسَّانِيَّةِ..
يجوز عند أهل العلم الدعاء بغير العربية الفصحى، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، نص على أنه لا ينبغي لمن لم يكن الإعراب عادته أن يتكلفه..
ولعل العلة في ذلك أن الخشوع والصدق أرجى فيما ترجم بشكل أدق عن الفكر والقلب والمشاعر، وتُحقق اللهجة شيئا من ذلك غير يسير..
الشِّيخْ الْگَاسَكْ وُلْ -- بلَّعْمٓشْ يَـ السبْحَانْ
أعْطِيهْ الرَّحْمَه وُلْ -- غُفْرَانْ أبْلَا سَوْلَانْ
أنْعَمْ يَـ اللهْ أعْلِيهْ -- أُ بَدَّلُّ بَهَالِيهْ
أفْضَلْ منْهُمْ وَعْطِيهْ -- منْزِلْ فَعْلَ مَكَانْ
فلْجِنَانْ، أُوَّالِيهْ -- لَهْلَ لْفَضْلْ أُلَعْيَانْ
وَقْتُ كَانْ أمَّفِّيهْ -- أفْلِيمَانْ، أُلِيمَانْ
بِيهْ أمْصَفِّ دخْلِيهْ -- وُلْسَانُ كَانْ الْسَانْ
أبْلِيمَانْ أمْصَفِّيهْ -- يَعْرَفْهَ كلْ انْسَانْ
كَانْ الشِّيخْ اسْكِ بِيهْ -- خُلْقُ زَينْ، أُحَسَانْ
أُطَبْعُ زَينْ، أُنَزِيهْ -- الشِّيخْ، أُكَانْ، أُكَانْ
اللهْ تَوْفْ إجَازِيهْ -- عَنْ ذَ فُرْ أبْلحْسَانْ../..
أحمد عبد الله المصطفى