ارتبط اسم العلامة الدكتور محمد المختار ولد ابَّاه، حفظه الله، بالريادة والتصدر، فلا يكاد يذكر اسمه إلا قفزَ إلى أذهان الذاكرين والسامعين تاريخ لا يُطَاوَلُ من التربع على عروش المعارف والفكر والأدب والتميز الإداري والدبلماسي الحصيف؛ فمن أول دكتور دولة في البلاد إلى أول مدير ومؤسس لمؤسسة تعليمية أكاديمية وطنية إلى أحد أوائل الأطر الوطنيين الذين تسنموا رتب القيادة في المنظمات الدولية والإقليمية إلى أول رئيس لجائزة شنقيط و أول مؤسس ومدير لصرح أكاديمي جامعي خاص في البلاد إلى أول من جمع باقتدار بين الأصالة والمعاصرة؛ اعتاد الدكتور محمد المختار، التجول بأريحية، وكأن التصدر والريادة لم يخلقا إلا له، فبارك الله فيه وحفظه ورعاه.
لقد تضلع الرجل من نمير المعارف التقليدية الصافي قبل أن يتفرغ للنهل من شلال العلوم الحديثة الرقراق.
رغم انشغال الدكتور محمد المختار، بالسياسة والإدارة بمفهومهما المطلق فإن الشأن الثقافي والفكري والأكاديمي، أبعاد ظلت تسكنه ويسكنها، والمتتبع لبعده التأليفي بشكل خاص سيجد ما يتتبعه على امتداد سُوحِ الثقافة والفكر بمختلف عناوينهم؛ فمن علوم القرآن الكريم إلى علوم الحديث الشريف والسيرة النبوية المطهرة إلى الفكر الإسلامي والفقه وأصوله واللغة والشعر، ظلَّ الدكتور محمد المختار ولد اباه، يكتب بلغة الضاد الأصيلة ولغة مولير الصقيلة، ومن أبرز مؤلفاته ترجمته لمعاني القرآن الكريم، وموسوعاته التأريخية للقراءة والقراء وللتصوف والمتصوفة وللنحو والنحاة.
وقد أصدر الدكتور محمد المختار، قبل أيامٍ معدوداتٍ، كتابَه "رحلة مع الحياة" وهو مذكرات جمع فيها تجربته الغنية في دوائر المجتمع والثقافة والتفكير والإدارة والسياسية، وهذه المذكرات هي التي نتشرف بقراءتها في هذه السطور.
تقع المذكرات التي طبعت طبعة فاخرة في بيروت بلبنان، في 400 صفحة، قياس 17 × 24.
التصدير والتقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
بَدَلَ أن تُصدَّر المذكرات بالإهداء التقليدي لشخص أو جهة فقد صُدِّرت بالبسملة وحمد الله على نعمه والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم، وتفسيرُ ذلك في نظري أنه قد يكون نتاجا لسلوك المؤلف الديني التصوفي، حيث يريد أن يبدأ كتابه بما ينبغي البدء به عند "القوم"، وفيه أيضا نوع من شكر المتفضل على ما منَّ به من توفيق ونجاح وريادة في الحياة، وقد يكون من باب أن الجهات الخاصة والعامة التي ينبغي أن يهدى لها هذا العمل متعددة وكثيرة، ولذلك وخروجا من حرج تخصيص لشخص أو جهة، أراد ذلك الإهداء أو التصدير بتلك الطريقة.
بعد ذلك عرضٌ أو فهرسة للعناوين البارزة في المذكرات، ثم تأتي المقدمة؛ وهي مقدمة وصف فيها المذكرات بأنها صفحات من حوادث فرضت نفسها عليه، بعضها يمثل مراحل طبيعية من تطور العمر وقد مضت، فكان في استعادتها نوع من التقاط ما أخذ الزمان منها، وبعض تلك الحوادث مثَّل منعطفات كان لها تأثير قوي في مسار حياته، فلم يستطع التخلص منها كما قال.
والعارف بمسار حياة الدكتور محمد المختار، يدرك أن هناك الكثير من الأحداث التي مرّ بها، ولم يتعرض لها، وهناك ما تعرض له بشكل مختصر أو تركه يفهم من حال الشيء، أو أشار إليه رمزا وإن كان الرمز يكفي أحيانا بل قد يكون أفضل.
ولم تخل المقدمة من بعد فكري فلسفي تأملي إسلامي، عن النسيان والتذكر وحصيلة أيام العمر ومحاسبة النفس وجدوى وجود الإنسان في هذه الدنيا ومصيره في الحياة الآخرة.. إلخ.. قبل أن يتحدث عن تجاربه مع الناس ومصاحبته لكثير من أهل الفضل ومصاحبتهم له، وكم كان يتمنى أن يسميهم جميعا بأحسن أسمائهم وأن يثني عليهم.
رحلة مع الرحلة
تبدأ رحلة الدكتور محمد المختار ولد اباه، كما يرويها في "رحلته مع الحياة"، بمولده في الرابع من مارس 1924، عند بئر "ما إكوم" بالقرب من "علب آدرس" في أبي تلميت بولاية اترارزة.
ويسرد بأسلوب شيق بداية تعقٌّله للأمور في حي والده الشيخ محمد فال "أباه" ولد باب ولد أحمد بيْبَ، وهو شيخ حضرة مورودة، ويتذكر يوم سأله والده وهو في سنته الخامسة، أين وصلت في القرآن؟ وإجابته له أنه وصل سورة "ق" وقول والده له هل وصلت في تلك السورة إلى قوله تعالى : من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب؟ والخشية من الرحمن والإنابة إليه مما يتعلق به أهل الصفاء والمعرفة ويودون أن يصلوا إليه هم ومن يحبون.
ومن حفظ القرآن الكريم في أحضان البادية، والتنقل إلى رحاب المحظرة وتعداد شيوخه فيها والتوقف عند شيخه الذي أعجب به وافتُتِن بأسلوبه التدريسي، العلامة الأمين (أيمِّينْ) ولد سيدي ولد محمد الفاضلي،
بالجانب الغربي من تِنْيخْلفٍ
حيث اسْتَكَفَّ عراؤها بالغاب
صال الدكتور وجال في تلك العوالم الفسيحة والذكريات والأحداث الجميلة والمفيدة.
ومن مفترق الطرق إلى معترك الحياة والضرب في مناكب الأرض، و ممارسته بعض الهوايات مثل لعبة "ظامه" أو "اصرند" التي يقول إنه تدرج في سلَّم ممارستها حتى أصبح في مستوى أبطالها المشهورين، مثل ميلود ولد باهنينَ، والعلامة كراي ولد أحمد يوره، إلى التوظيف والتدريس في النعمة معلما للغة العربية في نظام تربوي لا مكان فيه لغير لغة المستعمر، إلى العمل مراقبا في مدرسة أبي تلميت ثم العمل لسنتين مدرسا في تجكجه، ينقل الدكتور محمد المختار، تفاصيل كل ذلك وما تفرع عنه من أحداث ومن التقى بهم على هامش تلك الفترة من أعلام وشخصيات مرموقة.
ثم يسرد رحلته الأولى إلى الحج عام 1953، وتوقفه أسبوعا في باريس في طريق عودته، ثم يعرج على إقامته سنتين في مدينة سانلوي (اندر) متحدثا عن النوادي "الأنْدرية" التي كانت ملتقى ساسة وأدباء وزعماء البلاد الموريتانية يومها.
بعد ذلك يتحدث الدكتور محمد المختار، عن تكليفه بإنشاء معهد أبي تلميت، وعلاقته مع الشيخ عبدُ الله ولد الشيخ سيديا، وعن مهمته كمفتش للتعليم.
ثم يعرض الدكتور محمد المختار، لدخوله في أول حكومة في هذه الربوع سنة 1957، وهي حكومة قانون الإطار ويسرد مغادرته صحبة رفاقه: الأمير محمد فال ولد عمير، و الدي ولد سيدي باب، وغيرهم إلى المغرب مرورا بفرنسا ومصر، ويستعرض بالتفصيل إقامته في المغرب التي سماها أعوامَ الرباط، وعودته إلى الوطن بمعية رفاقه والسجن فيه على مرحلتين والمحاكمة والحكم المخفف عليهم، ثم يتحدث عن عودته للتدربس قبل أن يدير مدرسة تكوين المعلمين ويشرف بعد ذلك على تأسيس مدرسة تكوين الأساتذة التي كان أول مدير لها.
وبعد انقلاب 1978 الذي تم أثناء مهمة خارجية صحبة الوزير حمدي ولد مكناس، عاد الدكتور محمد المختار والتقى برئيس اللجنة العسكرية العقيد المصطفى ولد محمد السالك، الذي يحتفظ له بمعرفة من أيام عمله معلما في قريتهم النباغية.
بعد ذلك بفترة ليست بالطويلة شدَّ الدكتور الرحالَ في بداية تجربته العملية مع المنظمات الدولية، تلك التجربة الثرية التي استمرت لفترة طويلة وشهدت تنقلا من منظمة إلى منظمة ومن عاصمة إلى عاصمة.
وخلال العقدين الماضيين عاد الدكتور إلى أرض الوطن وكان أول رئيس لجائزة شنقيط مطلع هذا القرن، وقد أفرد تلك الجائزة بالحديث، وتوقف عند ثلاثة فقط من الذين فازوا بها أيام توليه رئاستها، وهم الباحث الراحل وعالم الرياضيات المتمكن، الدكتور يحيى ولد حامدن، والشاعران البارزان : أحمدو ولد عبد القادر، ومحمد الحافظ ولد أحمدو.
وختم الدكتور محمد المختار مذكراته بحديث عن مشروع جامعة شنقيط التي يرأسها وتوقف مؤبنا لواحد من أبرز من ساعدوه فيها فكان أول أمين عام لها، وهو المرحوم الدكتور محمد المصطفى ولد سيدي أحمد.
الخلاصة
وفي المحصلة فإن هذه الرحلة مع الحياة تمسك بمجاميع نظر وتفكير من يتصفحها.
لقد كتبت بلغة سلسة جزلة صقيلة كسبائك الذهب، لذلك لا تَملُّ من تصفحها، وحين تقترب من تمامها تودُّ لو أنها زادت عن ذلك وامتدت إلى ما لا نهاية.
تحكي هذه المذكرات أحداثا بارزة كان لها تأثيرها القوي على كينونة هذه البلاد وما حولها، و تتعرض لتجارب ناضجة وثرية ومفيدة على مختلف الصعد.
رغم أن الدكتور محمد المختار، كان يتحدث من باب المشارك الفاعل في معظم الأحداث الوطنية خلال مراحل مهمة من تاريخ أمتنا، وكان هناك تباين كبير في مستوى الطرح والرؤية لمختلف هذه الأحداث، فإن رؤيته وطرحه في مذكراته هذه قُدِّمَت بشكل هادئ وحصيف ومتوازن لم يعلي فيه صوته ولو مرة واحدة.
في هذه المذكرات الجليلة قصص وأحداث نادرة وطريفة ومفيدة لم أسمع بها من قبل، وأظن أني لست وحدي في ذلك، مثل قصة السيد الذي لجأ إلى مصر بواكير حكم عبد الناصر، وأصبح يقدم نفسه هناك على أنه ولي عهد كيديماغا، وفيها تجربة فذة في مجالات الثقافة والفكر والإدارة والدبلماسية والتربية، وعلاقات مع أبرز الساسة في البلاد وشبه المنطقة والعالم، من ملوك ورؤساء و وزراء وعلماء ومفكرين وكتاب وأدباء.
كما أترع الدكتور مذكراته أدبا وشعرا وهو الشاعر المطبوع الذي يجيده فصيحا وشعبيا.
وإذا كانت مذكرات الرئيس المختار ولد داداه، وبعض من وزرائه، قد سدت فراغات مُزْمِنة في ذاكرتنا الجمعية الوطنية السياسية والإدارية، فإن هذه المذكرات جاءت لتسدَّ - فضلا عن فراغ في تلك الذاكرة - فراغات فيما سبقها من أعمال.
حفظ الله الدكتور محمد المختار ولد أباه، وأطال في عمره وأدام عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
(نشرت في عدد اليوم الثلاثاء من يومية "الشعب" التي تصدر عن الوكالة الموريتانية للأنباء)