كثيرون هم الشيوخ الذين أخذوا البيعة عن شيخنا الشيخ سعدبوه بن شيخنا الشيخ محمد فاضل، وكثيرة كذلك هي حضرات أولائك الشيوخ التي لاتزال قائمة، ومن تلك الحضرات البارزة، حضرة ظاهرة زمانه وواحد أقرانه وأوانه الشيخ أحمد أبي المعالي قدس الله تعالى سره. لقد كان هذا الشيخ فانيا في الله تعالى من العلماء العاملين، وعلى نهجه القويم سار أبناؤه الأكرمون وعلى خطا أولئك سار أبناؤهم الطيبون وأحسبهم جميعا كذلك، ولا أزكي على الله أحدا.
إن مقام أحفاد هذا الشيخ الجليل يستوجب الإنصات لهم في كل كبيرة وصغيرة، بل الامتثال لأمرهم، والاقتداء بأفعالهم، والاعتناء بمقالهم، ولكنّ كما تقول العرب: إنّ لكل مقام مقال، وإنّ الحديث ذو شجون، ومادام الأمر كذلك، فما المانع أن يحاور صغيرُ قوم أخاه الأكبر ؟ لعلّ الصغير يستفيد أو تحدث له ردود أخيه ذكرى.
لقد قرأت كغيري من متابعي وسائط التواصل الاجتماعي منشورا لأخي الكريم: الشيخ أحمد ولد الشيخ محمد المصطفى ولد الشيخ أحمد أبي المعالي، انتهى فيه إلى أنّ مرجعيات الصوفية يجب أن تظل بعيدة عن الحياة السياسية، وهي فكرة ليست جديدة على مسامعي، ولكن - مع تقديري لأهلها - فإنني لا أقاطعهم وجهة النظر هذه.
ومن ذلك المنطلق، وددت أن أتطفل بإيجاز على سدنة هذا المجال لأبدي بعض الملاحظات التي أردت منها دلائل على مبررات مشاركة المرجعيات الدينية في الحياة السياسية، وذلك قبل أن أقدم توصيات لتلك الفروع التي تعود في أصلها في الطريق إلى شيخنا الشيخ سعدبوه بن شيخنا الشيخ محمد فاضل.
أولاً: أدلة المرجعيات الدينية في ولوج السياسة.
1- أدلة على سبيل الاستدلال التاريخي.
لقد خلّف السلف الصالح في هذه البلاد آثارا شاهدة على ولوجهم للحياة العامة بكل تفاصيلها، وليست السياسة إلا مظهرا بسيطا من تلك المظاهر التاريخانية التي قدم فيها السلف الصالح تضحياتٍ جسامًا ، فهاهو الشيخ حماه الله يتدخل بشكل مباشر في السياسة كمعارض حادٍّ للبرنامج الأوربي في غرب إفريقيا، ولديكم في شمال البلاد، وفي المغرب مشيخة أهل شيخنا الشيخ ماء العينين التي اتخذت قرارا مناهضا للاستعمار بدءا بشيخنا الشيخ ماء العينين كمؤسس لهذه الحضرة الصوفية، وصولا إلى أبنائه خصوصا الشيخ أحمد الهيبه والشيخ امربيه ربه الذين انتهت إليهما خلافة أبيهما، فاحسنا فيها صنعا - شأنهم في ذلك شأن إخوتهم - حين بايعتهما على التوالي قبائل سوس المغربية، وذلك بعد انتفاضة هذه القبائل إثر تقويض الفرنسيين لتصرفات سلطان المغرب آنذاك، بموجب الحماية الفرنسية. لقد ضرب هذان الشيخان مثالا رائعا في المشيخة الناصعة ، الهادفة، الواعية، فقد كانا قبلة لتربية القلوب، وأنموذجا يحتذى في الحكامة الرشيدة، وتدبير شؤون الرعية، وقوة العلاقات الخارجية؛وسعة شبكة الاتصالات، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر : مراسلاتهم مع عمر المختار التي يطلب فيها الإمداد في حربه الضروس ضد المستعمر الفرنسي في الجزائر إلى غير ذلك من العلاقات ذات الطابع السياسي.
وفي جانب صوفي أكثر هدوءا تجد ثنائي البوابة الجنوبية للبلاد الموريتانية - على حد تعبير فرير جاه - أي الشيخ سيديا باب وشيخنا الشيخ سعدبوه يجلسان مع المستعمر الفرنسي على طاولة نقاش سياسية بامتياز، ليختارا سبيل المهادنة مع هذا المستعمر الغاشم سعيا في مصالح المسلمين، ليس إلا. فلم تمنعهم طبيعة المشيخة من خوض تجربة سياسية في زمنهم، ولم تمنعهم مقتضيات طريق التصوف من معاجلة تلك النازلة بمنظور شرعي يأخذ في الحسبان البعد السياسي للقضية.
2- أدلة على سبيل الاقتداء.
إن الواقع العملي اليوم مليئ بالأمثلة الحية على ممارسة شخصيات وازنة يشار إليها بالفضل والصلاح للسياسة، ومن ذلك على سبيل المثال: الشيخ عثمان ولد الشيخ أحمد أبي المعالي ، الشيخ الفخامة ولد الشيخ سيديا، الشيخ محمد فال بن الشيخ سيدي محمد التاگنيتي، الشيخ محمد الحسن ولد الددو ...الخ. فلو كانت السياسة محظورة على المرجعيات الدينية، لما وجدنا هذا الكم من المرجعيات قد جعل من السياسة وسيلة للمشاركة في مصالح المسلمين، إذ يقول صلى الله عليه وسلم:{ أمتي لا تجتمع على ضلالة}.
3- أدلة على سبيل الاستدلال العقلي.
إن القراءة المنصفة لما كانت عليه الأوضاع الاجتماعية في البلاد، وما شهدته من تطور كفيلة بتقديم مبررات واضحة لما أضحت تلعبه المرجعيات الصوفية والعلماء وقادة المجتمع في الحياة السياسية، ذلك أنه إذا كان الشيوخ في المرجعيات الصوفية المعروفة وطنيا، في الزمن الماضي لم يكونوا محاطين إلا بزمرة قليلة من الناس، لا تصل في أكثر الأحوال ألف شخص، فإن هذا الكم الديمغرافي ما انفك يزداد حتى صار يربو على المليون في بعض مراكز هذه المرجعيات، ومن هنا أصبح الشيخ في موقع القائد العام لهذا الكم الهائل من الناس، ولا مناص له من تدبير مصالحهم العامة، إلا إذا اختار أن يضرب بمصالح أتباعه عرض الحائط، و التقوقع، والركون لما هو أدنى، وحاشا شيوخ التصوف من ذلك. ثم إن الزمن تغيرت أحواله وتبدلت متطلباته، وما كان بالأمس القريب ثانويا، أصبح في الحياة المعاصرة، اليوم مطلبا جوهريا، لاغنى لأي كان عنه ولاسبيل لإدراكه إلا بمسايرة الركب بسلاسة، وليست السياسة إلا وسيلة فعالة للجمع بين هاتين المتلازمتين، ولذلك سعت أغلب المشيخات للحصول على امتيازات الوزن الاجتماعي لينعكس ذلك إيجاباً على الجانب التوظيفي والعملي لقواعدهم الشعبية، وتحصيل وسائل العيش الكريم لأتبعاها في مراكزها المختلفة. وعلى ذلك الأساس، فليس منطقيا دعوة هذا الصنف من الشيوخ إلى اعتزال السياسة مطلقا، وإذا سلمنا تجوزا بإمكانية ذلك فإن ضرورة الإنصاف تستوجب إيجاد البدائل المقنعة، وهو الشيء المتعذر دون أدنى شك. كما أنه لا يخفى ما في القول بأن المرجعيات الدينية يجب أن تظل بعيدة عن الحياة السياسية من تأس - ولو عن غير وعي - بمبادئ العلمانية الغربية، إذ يعتبر فصل الدين عن الدنيا من أهم جذور خطاب العلمانية من يوم نشوئها إلى يومنا هذا. ثم إنّ الذي يفرض على المتصوفة الترفع عن السياسة باعتبارها مستنقع خبيث - في نظره - يقع بشكل خطير في أعراض ناشطي السياسية ويصفهم بصفات ذميمة تكتسي طابعا تعميميا، يستحيل تقبله إطلاقا، إذ قيلَ قديما: إنّ الناس كالناس، وما من فئة إلا وفيها الصالح والطالح، وليست فئة السياسين إلا فئة يسري عليها ما يسري على باقي فئات المجتمع.
4- أدلة على سبيل الاستدلال النقلي.
الواجب في هذه القضية يتفاوت بحسب حال الناس ومؤهلاتهم، ومواقعهم من المسئولية، وقدرتهم على الفعل والتأثير والمشاركة الإيجابية في مجريات الأمور، فيسع بعضهم ما يضيق على آخرين، ويستحب لبعضهم ما يكره لآخرين، بل ويحرم على بعضهم ما يجب على آخرين، ولاسيما في رد الفعل والواجب عند سماع الأخبار قال الله عز وجل: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ {النساء: 83}. قال السعدي في تفسيره: في هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم.
وقال الزحيلي في التفسير المنير: معنى الآية: قد يبلغ الخبر عن أحوال السلم و الحرب من مصادر غير موثوقة إلى الجهلة أو المنافقين أو ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالقضايا العامة، فيبادرون إلى إذاعته بين الناس، وهذا أمر منكر يضر بالمصلحة العامة، لذا يجب أن يترك الحديث في الشؤون العامة إلى قائد المسلمين ـ وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ أو إلى أولي الأمر ، وهم أهل الرأي والحل والعقد ورجال الشورى في الأمة، فهم أولى الناس وأدراهم بالكلام فيها.
ومادام هذا موقف الشارع من مجرد التعامل مع شائعات الشأن العام وتحديده لمن له الولاية في التعامل معها، فمابالكم بتحديده لمن له تدبير مصالح المسلمين ؟
إن الشارع دون شك خول العلماء والشيوخ التدخل المباشر في تدبير مصالح المسلمين وهو ما يشتف من قوله صلى الله عليه وسلم : { من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم }والنصوص في هذا المعنى كثيرة، والقصد هو أن ننبه على أن المسلم حيث كان مطالب بقدر طاقته بشؤون المسلمين، فذلك هو الإصلاح المناط بهذه الأمة، قمةً وقاعدة.
خلاصة القول أنّ الأدلة على جواز ولوج المرجعيات الدينية للحياة السياسية كثيرة في تنوعها، نقلية ، عقلية ، تاريخية ... واعتمدنا فيها طريق الاختصار، وفقنا الله وإياكم لما فيه حبه ورضاه، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
ثانيا : التوصيات.
إن التوصيات التي أشرت في البداية إلى أنني سأبديها لأتباع الطريقة القادرية الفاضلية في الحضرات التي تعود في أصلها إلى شيخنا الشيخ سعدبوه بن شيخنا الشيخ محمد فاضل يمكن إجمالها - اختصارا - في مايلي:
1- على هذه الفروع أن تسعى بكل ما أوتيت إلى خطاب يوحد موقفها ويجمع كلمتها، وتتفادى كل أسباب التفرق والاختلاف.
2- لاينبغي أن تفهم تلك الفروع مطلقا من بيانات الخلافة العامة للطريقة القادرية الفاضلية أنها تسعى إلى إقحامهم سياسيا في مواقفها على سبيل الوجوب، بل ينبغي أن تنزل تلك البيانات منزل خطاب يلتمس التوجيه والإرشاد، وهو الأمر الواضح من قول الناطق باسم الخليفة في أحد بياناته الأخيرة: ( نلتمس أن ينسحب هذا البيان على كل أتباع الطريقة القادرية الفاضلية في شبه المنطقة )، فلو كان ينظر إلى المريدين كمرؤوسين تجب عليهم الطاعة في إطار المصلحة السياسية، لاستخدم عبارات تفيد ذلك. ومن هنا يمكن القول بأن حرية الاختيار سياسيا في الطريقة القادرية الفاضلية موجودة فعلا. وما على المعنيين بخطاباتها إلا الفهم السليم لها،مع أنّني مقتنع بأن إرشاد الشيخ - ولو على سبيل الالتماس لا الأمر - يستحق الامتثال، وفي كل شيء.
3- وعلى ذكر وجود المرجعية الموحدة للطريقة القادرية الفاضلية، أشير إلى أن بوادر هذه المرجعية كانت ماثلة في مراسلات الرعيل الأول، من ذلك على سبيل المثال: مادار بين شيخنا الشيخ سعدبوه مع أخيه شيخنا الشيخ ماء العينين في نازلة الاستعمار الفرنسي، ومن ذلك في نطاق أوسع مادار بين شيخنا الشيخ سعدبوه وباب بن الشيخ سيديا في نفس النازلة، ولو افترضنا جدلا أنّ هذه المرجعية الموحدة لم تكن موجودة، وأنّ الرعيل الأول اكتفى بشبه تأسيس لها، فما المانع من إيجادها؟
وعلى ذلك الأساس، فإنني أدعو كلّ الغيورين على مصلحة هذه الطريقة إلى العمل على توحيد صفوف فروعها، إذ الاتحاد هو أساس القوة، والاتحاد فقط، ولن يكون ذلك إلا بالمحاورة والتشاور بين قادة فروع هذه الطريقة والخلافة العامة لهذه الفروع، وليكن فضل السبق والمبادرة لأي من الفريقين، فالأهم هو وجود كيان عام يجمع هذه الفروع ثقافيا واجتماعيا وسياسيا تحت مظلة واحدة.
.