لأول مرة بعد سنوات سبع من الممارسة ، أجدني غير معنى بشكل مباشر بنتائج المجلس الأعلى للقضاء هذه المرة ، لكن بحكم تواجدي و اضطلاعي على تجربة مهمة في ميدان استقلالية القضاء ، أطالب بتكريس استقلالية السلطة القضائية عبر مراجعة النصوص الناظمة لها .
أول هذه النصوص الحري بالمراجعة هو الدستور الذي خصص للسلطة القضائية المواد الثلاث من 89 إلى 91 , في حين خصص الدستور المغربي مثلا المواد من 107-128 للسلطة القضائية ، الدستور التونسي خصص المواد من 102 -124 للسلطة القضائية، الملاحظ في دساتير الموجة الدستورية ما بعد الربيع العربي أنها تجاوزت تكريس استقلالية القضاء نحو ضمانات المحاكمة العادلة ، بل أن بعض الدساتير كرس مقتضيات هي في الأصل من مجال القانون مثل : مدة الحراسة النظرية و النعويض عن الخطأ القضائي ( المادتين60 و 61 و من الدستور الجزائري ) ، علنية الجلسات ،تعليل الأحكام ،مراقبة النيابة العامة لعمل الشرطة القضائية( الفصول 123-125-128 من الدستور المغربي ).
من المستبعد في الأنظمة الديمقراطية المبنية على مبدأ فصل السلطة ترأس المجلس الأعلى للقضاء من جهة أخرى خارج القضاء نفسه ، فقد نصت الفصل 115 من الدستور المغربي مثلا على أن الرئيس الأول لمحكمة النقض هو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أي الرئيس الفعلي في حين تبقى رئاسة الملك شرفية فقط ، أما الدستور التونسي ، فقد نص الفصل 112 منه على أن المجلس الأعلى للقضاء ينتخب رئيسا له من بين أعضائه من القضاة الأعلى رتبة ، يبقى الدستور الفرنسي مصدرا تاريخيا لأغلب الدساتير المغاربية ، فعلى الرغم من النص صراحة على أن الرئيس هو الضامن لاستقلال القضاء ( المادة 64 ) ، إلا أن الرئيس الاول لمحكمة النقض هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء في تشكلة القضاء الجالس ، في حين يرأس المدعي العام تشكلة قضاة النيابة ( المادة 65 ) .
تزداد الحاجة أكثر لإصلاح التنظيم القضائي و إنشاء قضاء للقرب و تعديل الكثير من النصوص المسطرية و الموضوعية ، فلم يعد مستساغا اليوم أن تنفرد النيابة العامة بصلاحية المتابعة و الاتهام ، ففي أغلب الانظمة القضائية لا تصدر قرارات الاتهام إلا من طرف قاض جالس هو قاضي التحقيق حصرا ( المادة 80 من قانون الاجراءات الجنائية الفرنسي ) ، كما أن إسناد وظيفتي التحقيق و الأمر بالقرارات الماسة بحرية المتهم لجهة قضائية واحدة أصبح متجاوزا ، فقد أوكل القانون الفرنسي مثلا ذلك إلى قاضي الحريات و الأعتقال ( المادة 144 من قانون الاجراءات الجنائية ) ،ولمراقبة تنفيذ العقوبة و مكافحة العود الجنائي تم إنشاء قاضي لتنفيذ العقوبة ( المادة 49 D من قانون الاجراءات الجنائية ) .
تبقى الإشارة إلى أن عزل القضاة الجالسين لا يكون إلا بطلب منهم أو بمناسبة عقوبة تأديبية ، أتمنى على المجلس القادم أن ينصف بعض القضاة المشهود لهم بالكفاءة و النزاهة ، و عدم تحويل القضاة بناء على أحكامهم و قراراتهم ، فمن المعروف أن القرارات و الأحكام القضائية لا يعلق عليها إلا بمناسبة الطعن فيها أو في قاعات الدرس و التحصيل .
لا شك أن ورش إصلاح العدالة هو أهم تحدى تواجهه الأنظمة الديمقراطية ، ولا شك أن الكثير تحقق و منه تحسين الظروف المادية للقضاة ، و لكن المأمول أكثر ، لا شك أيضا أن هناك ارتباطا عضويا بين إصلاح القضاء و الاقلاع الاقتصادي و الاجتماعي ، فالظلم مؤذن بخراب العمران ، كما يرى العلامة إبن خلدون .