سألني كثيرٌ ممّن يُحسن الظَّنَّ بي عن مسألة الوليِّ في النّكاح الَّتي تكلَّم عنها الشَّيخ محمّد الأمين الشَّاه, ووجد فيها كثيرٌ ممَّن أضناهُنَّ العَضلُ متنفَّسا, فضلا عن كثيرٍ ممَّن تكسَّرت أحلامُهم على عتَباتِ الرَّفض والرَّد.
ومن المعلوم أنَّ من المآسي المتعدِّدة الآثار إجبارَ البنات على نكاح مَن لا يَرضَين, وعضلهنَّ أن يَنكِحن مَن يَرضَين, ولم تزل سماءُ الواقع تُمطرنا بقصص من ذلك مُوجعة مُفجعة..غيرَ أنَّ علاج ذلك ليس بتجاوز حقِّ الأولياء الَّذي دلَّت عليه أدلَّة دون ردِّها خَرقُ القتاد..وإنَّما يُعالج وفقَ النِّظام الشَّرعي المتكامل الّذي أشار القرءان إلى ما فيه من المصالح في قوله تعالى في آيات الطلاق والنكاح: (ذلك يوعَظ به مَن كان مِنكُم يُؤمِن باللَّه واليَومِ الآخِر ذلِكُم أَزكى لكُم وأَطهَر واللَّه يَعلَم وأَنتُم لا تَعلَمون)
وقد نظرتُ نظرةً في مكتوب الشَّيخ الشَّاه, فوجدت فيه إجمالا لأدلّة وأقوال حقُّها التَّبيين, وإعراضا عن أخرى حقُّها العَرض, ووجدته أخطأ الصَّواب في الجملة, فأردت بيان الحقِّ في الجملة, مع أنِّي أعرِف فيه التَّواضع وصدق الاقتناع, فضلا عن دعوته إلى التَّوحيد والاتِّباع, وتحذيره من الشِّرك والابتداع, وغير ذلك ممَّا أفضل قطرة مِداد فيه على كلِّ علماء النِّفاق والقناعات الزَّائفة.
لا ريب أنَّ ما ذهب إليه جمهورُ أهلِ العلم من اشتراط الوليِّ في النِّكاح هو القَول الحقُّ الَّذي لا يجوز العُدول عنه, فأنوار العلم عليه لائحة, ونَفحاتُ الفهم منه فائحة, وفيه من حفظ الضَّروريات وإحكام المقاصد ما زيَّن العلماءُ به المهارق, ورصّعوا به الطُّروس.
فمَن نَظر إلى أدِلَّتهم من القُرءان وجَدَها أقوى دلالةً وألصقَ بالمقصود مِن شَعرات الصَّدر, فقوله سُبحانَه: (وأنكِحُوا الأيَامَى منكُم) لا يُمكن سَلُّ الأولياء منه بحالٍ, ولا إسنادُ الفعل فيه لغيرهم, وكذلك قولُه تعالَى: (ولا تُنكِحوا المُشركين حتَّى يُؤمِنوا..)
وأمَّا قولُه تعالى: (حتَّى تَنكِحَ زَوجا..) وقوله: (أن يَنكِحنَ أزواجَهنَّ) فإسناد فعل النِّكاح للنِّساء لا يُخرِج الأولياء, لما في دلالة الفعل من احتمال المشاركة, فالمرأة تَنكِح زوجا بموافقة ولِيّها, وأُسند إليها الفعل لاشتراكها فيه, ولا يُفيد ذلك الاستقلال به, كما نَقولُ "جاء رَضيع" فيُسند إليه الفعل للمعية, وهو إنَّما جيئَ به, وبهذا يتبيَّن أنَّ هذه الأدلَّة القرءانية ليست سيَّان في الدَّلالة على المقصود.
وأمَّا الأدلَّة من السُّنَّة فمنها ما لا يَخلو من كلام كأحاديث: (لا نكاح إلاَّ بولي..) (أيّما امرأة نُكحت بغير إذن وليِّها..) (لا تُزوِّج المرأةُ المرأة..) (لا نكاح لامرأة بغير إِذن وليٍّ).. فضلا عن آثار الصَّحابة...مع أنَّ المُنصف يَميل إلى إثبات الحُكم بها لكثرة طرُقها وتصحيح بعض أهل العلم لبعضها, ونثروا من ذلك دُرَرا لامعة, أسفرت عن صِناعة حديثية مُدَبَّجة بأيدي الحفَّاظ المَهَرة..
فحديث: (لا نكاح إلاَّ بوَلي..) اختلفواْ على أبي إسحاق في وصله وإرساله, فقد رواه إسرائيلُ عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا, وتابع إسرائيلَ غيرُ واحد, ورواه أيضا سُفيانُ وشُعبةُ مرسلا, لكن اعتمد أكثرُ الحفَّاظ رواية إسرائيل ورجَّحوها, فقد كان من أثبت النَّاس في حديث أبي إسحاق, ولهذا قوَّى روايَتَه عبدُ الرَّحمن ابنُ مَهدي وابن المَديني والبخاري والتِّرمذي والبَيهقي وغيرُهم..فكيف إذا تألَّبت شواهدُه لتقويته, وقد جاء عن نحو ثلاثين صحابيا!؟
ولا يُعكِّر صفوَ الاحتجاج به كونُه ظنِّيَّ الثُّبُوت, إذ القَول إنَّه لا يُحتجُّ إلا بقطعيِّ الثُّبُوت من أصول المعتزلة والقدرية الَّتي تلقتَّها الألسنة, كما وقع للشَّيخ الشَّاه, فلو لم يكن يُحتجُّ إلا بالمتواتر لضاع الكثيرُ من الأحكام الَّتي دلَّت عليها الأحاديث الصَّحيحة ظنِّيةُ الثُّبوت..وقد حرَّر هذه المسألة أبو المظفَّر منصور بن محمَّد السَّمعاني في كتابه "الانتصار لأصحاب الحديث"
لكنَّنا سنَدع ذلك ونُعرض عنه صفحا, ونعودُ لواقِعنا, لنَرى كثيرا ممّن يَهوَى بَعضُهم بعضا يَرغبُون في الزَّواج بينَما يرفُض أولياءُ النِّساء ذلك رَفضَ الرَّوافض الشَّيخين, فهل تُلغَى وظيفةُ الأولياء, وتُنكِح النِّساءُ أنفُسهنَّ أم يُنكحهنَّ أولياؤهن الممنوعون من عَضلهنَّ!؟
لقد حدَّثتنا السُّنّة المطهَّرة عن ذلك ونزل في بعضِه قرءان, فقد روى البُخاري عن معقل بن يسار قال: زوَّجتُ أختا لي من رجل فطلَّقها, حتَّى انقضت عدَّتُها جاء يَخطبُها, فقلتُ له: زوَّجتُك وفرَشتك وأكرمتُك فطلَّقتَها, ثمَّ جئت تَخطُبُها, لا والله لا تَعود إليك أبدا, وكان رجلا لا بأس به, وكانت المرأةُ تُريد أن ترجع إليه, فأنزل الله هذه الآية: (فلا تَعضُلوهنَّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول الله (فزوَّجها إيَّاه)
فلو كان للمرأة الحقُّ في تزويج نفسها ممَّن تَهوَى لكانت هذه مناسبة ظاهرة لذكر ذلك, فتُرجِع هذه المرأةُ نفسَها لهذا الرَّجل الكُفء, ويُقال لولِيِّها ليس لك من أمر نكاحها شيء.
واستبداد الأولياء الَّذي يَخشاه النَّاس هو المنهيُّ عنه في قوله تعالى: (فلا تَعضُلوهنَّ) أي لا تَمنعوهنَّ من التَّزويج, وقد عدَّ كثيرٌ من العلماء العضلَ فُسوقا تسقط به الولاية عن صاحبه لتَصير إلى مُستحقٍّ لها..ولو طُبِّق هذا لزال كثيرٌ من المآسي.
وحتَّى لا يَقع هذا الاستبداد ورد في الصَّحيحين عن أبي هريرة مرفوعا (لا تُنكَح الأيِّم حتَّى تستأمر، ولا تُنكح البِكر حتى تستأذن) قيل: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت)
وحديث ابن عبَّاس مرفوعا عند مسلم وغيره: (الثَّيِّب أحقُّ بنفسها من وليِّها, والبكر تُستأذن فى نفسها, وإذنُها صُماتها) ففيه إثبات الوليِّ, وأنَّ الثَّيِّب لا تُنكح إلا بأمر صريح منها, والبكر بإذنِها, فلا تُعضل واحدةٌ منهما ولا تُجبَر, فلو كان الأمرُ للمرأة ابتداءً لما كان معنًى لذكر الوليِّ أو أحقِّية الثَّيِّب أو سُؤال البِكر في حِمَى المحافظة عليها.
لقد كانت عندَ أهل الجاهلية أنكحة لم يَقبل الإسلام منها إلا ما يُزوِّج الوليُّ فيه المرأةَ لخاطبها بصداق, وهو الَّذي كان عليه المسلمون, فلا يُزوِّج النِّساءَ إلا أولياؤهنَّ, فقد روى البخاريُّ في "باب من قال: لا نِكاح إلا بوليٍّ" عن عائشة (أنَّ النِّكاح في الجاهليَّة كان على أربعة أنحاء: فنكاحٌ منها نكاحُ النَّاس اليوم: يَخطُب الرَّجلُ إلى الرَّجل وليَّتَه أو ابنَتَه، فيُصدِقُها ثمَّ يَنكحُها... فلمَّا بُعِث محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بالحقِّ، هَدم نكاحَ الجاهليَّة كلَّه إلَّا نكاحَ النَّاس اليوم)
إنَّ الزَّواجَ بعيدا عن الأولياء بدل أن يكون سَكنا للقلوب ورحمةً للنَّفوس, يَصير خَوفا مستمرًّا ووقيعة دائمة, بل يُصبحُ ميدانا للاستغلال, وغايةً لانتهاك الأعراض...حتَّى تَموت المودَّة في القُربَى بالقطيعة, والتّعاطف بين الأصهار بالعداوة, كأن لم تَفُح نسماتُ امتنان من قوله تعالَى: (وهُو الَّذِي خلَق مِن الماءِ بَشَرا فَجعلَه نَسَبا وصِهْرا وكان ربُّك قديرا)
محمد سالم المجلسي