يبدو طرح هذا السؤال وجيها وواردا ، نظرا لأهميته وما يترتب عليه ، كما يبدو الجواب عليه بأسلوب علمي يتوخى الدقة والحذر من مزلة القدم مهما جدا
ولعل فطاحلة العلماء السابقين والباحثين المتمرسين لعلم المقاصد أجابوا عنه واختلفت أجوبتهم ؛ كل حسب تصوره وحسب فهمه وما أداه إليه اجتهاده ، فنقول وبالله التوفيق :
إن مقاصد الشريعة الإسلامية علم تطور على مر عصور من الزمن ، منذ الوهلة الأولى من عصر الصحابة حيث جرى على ألسنتهم ، ووجد في أفعالهم ضرورة العمل به لأنه العلم الذي يبحث عن أسرار الشريعة وحكمها والغايات أو المرامي التي ترمي إليها الشريعة ، كما ان علم أصول الفقه هو الأدلة الإجمالية وطرق ترجيحها وكيفية الاستفادة منها ، وليس منها شروط المجتهد أصلا ولكن لما كانت لا تؤدى إلا بالاجتهاد احتيج إلى شروطه ولكن ذلك باب وحده من أبواب علم أصول الفقه أفرد له العلماء بابا خاصا به سموه ( باب الاجتهاد )
ونظرا لأهمية علم المقاصد وقوة فائدته اختلف العلماء قديما وحديثا فيه ، هل هو داخل في أصول الفقه أم هو علم مستقل عنه ؟
فمن العلماء الذين اعتبروا أن المقاصد علم مستقل وطالبوا بإفراده عن أصول الفقه العالم العلامة الأصولي المجتهد النحرير والعلم الشهير الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية حيث يقول متحدثا عنه :
( أن تكون ثلة من القواعد القطعية ملجأ نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة ، وأن ما يحصل من تلك القواعد هو ما نسميه علم مقاصد الشريعة ، وليس ذلك بعلم أصول الفقه ) <مقاصد الشريعة 39>
ففي كلامه دلالة واضحة على أن علم المقاصد علم مستقل عن مقاصد الشريعة الإسلامية وذلك باجتماع ثلة من القواعد القطعية حين يلجأ إليها عند الاختلاف والمكابرة ، وقد تبع الشيخ الطاهر ابن عاشور آخرون وسارو على نهجه
ومما يمكن أن يقوي رأي الشيخ الطاهر ابن عاشور واعتبار رأيه في أن المقاصد علم مستقل عن أصول الفقه ما ذهب إليه العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث يقول في مجموع الفتاوى ( إن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها ، ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها من أشرف العلوم ، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس ومن الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم ) <مجموع الفتاوى 20/568>
كما ذكر الشيخ محمد الأمين الطالب في كتابه المعين بأن الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى صرح بأن الإجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه ( المعين 69)
إذا قرأنا رأي العالم العلامة ابن عاشور ومن حذا حذوه في أن المقاصد علم منفصل عن أصول الفقه ، فإن كثيرا من العلماء قديما وحديثا لم ير لهم كلام في علم المقاصد إلا إذا كان مرتبطا بأصول الفقه أو كما يقول الشيخ محمد الامين _ إذا تحدثوا عن المقاصد وعلى استحياء أحيانا - إنما يتحدثون عنها ضمن مباحث أصول الفقه (المعين في علم المقاصد 69)
ولعل اكبر دليل على ذلك إمام المقاصد ورائده الأول الشاطبي رحمه الله تعالى فإنه في كتاب الموافقات أدرج علم المقاصد في بحوث أصول الفقه المتعلقة بالكتاب ولو كان علما مستقلا عنده لألف له كتابا خاصا
كما أن من المعاصرين كذلك من جعل علم المقاصد من أصول الفقه العلامة جمال الدين محمد عطية الذي يقول ( من الأصلح أن لا اتفضل المقاصد عن أصول الفقه ، وأن تظل فرعا متطورا منه تدعمه وتساعده في تطوير باقي فروعه ) نحو تفعيل مقاصد الشريعة 183 مأخوذ بالواسطة من (المعين في علم المقاصد 70)
وخلال سياق الحديث عن هذا الموضوع أورد الشيخ محمد الامين ولد الطالب ردا للشيخ جمال الدين عطية على الطاهر ابن عاشور ورأيه معتبرا أن رأيه -أي في انفصال علم المقاصد عن أصول الفقه - ( ضار بكلا العلمين ؛ إذ يجمد الأصول على حالها ويحرمها من روح المقاصد ، كما أنه يبعد المقاصد عن الدور الوظيفي الذي تقوم به حاليا ، والذي ينبغي أن نحرص على تطويره ) نحو تفعيل مقاصد الشريعة 127بالواسطة من المعين في علم المقاصد 70
ومن العلماء المعاصرين المقاصديين الكبار الذين ساروا في هذا الاتجاه العالم العلامة الشيخ عبد الله ولد الشيخ المحفوظ ولد بيه حفظه الله إذ يقول حين سأله الشيخ الدكتور محمدن ولد حمّينّه حفظه الله في ندوة كبرى أقامتها الإذاعة الوطنية في العام 2014 عن إلى أين وصل التجديد فيما يتعلق بعلم المقاصد الشرعية ؟ وهل استطاع العلماء في هذا العصر أن يضعوا ضبطا معياريا مقاصديا لهذه الأمور المستجدة ؟
وهل يمكن أن نبحث في أصول الفقه دون أن نتحدث عن علم المقاصد ؟
وهل استطاع الفقه المقاصدي أن يحل مشكلات ؟
وهذه الأسئلة إنما يعنينا منها فقط السؤال المتعلق بالموضوع وخلال جوابه رد العلامة عبد الله لن بيه على السؤال وأبدى رأيه حيث يقول :
(إن سؤال المقاصد قد يشتمل على تفاصيل كثيرة لأن المقاصد هي الغايات أو المرامي التي ترمي إليها الشريعة ، وهذه المرامي قد تكون جزئية ولد تكون كلية ، هل يمكن ان نتحدث عن علم المقاصد دون أن نتحدث عن أصول الفقه؟ وبالتالي هل يمكن للمقاصد أن تؤدي وظيفتها في توليد الأحكام الشرعية دون القنوات الأصولية أي : دون الأوعية الأصولية ؟
فعندما تتحدث عن العلل فأنت تتحدث عن القياس ، عن مسالك العلة ومسالك العلة كلها من المقاصد سوى مسلكين هما : مسلك السير والتقسيم ومسلم الدوران طردا وعكسا ، فليست رائحة العلية والمقصدية وإنما العلة فيهما من باب الأمارة ، ما سوى ذلك من مسالك العلة يندرج في علم المقاصد )
هذا كلام الشيخ عبد الله بعد ذلك أبدى اجتهاده ورأيه حيث يرى أن توليد الأحكام لتنضبط المقاصد لا بد أن يمر بأصول الفقه
وهذا رأي يدل على أن المقاصد جزء من علم أصول الفقه
وقد أبدى نفس الرأي في كتابه ( علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه )
بين فيه علاقة الأصول بالمقاصد مستعرضا فيه عدة مناح أصولية قابلة للزيادة والتوسيع لمن فهمه ثاقب وقابلة كذلك للإضافة ، وقد كان الكتاب كتابا لا مثيل له في هذا الموضوع بين فيه وفصل وأوضح ، هذا مع غزارة اللغة وقوة الاستنباط وجودة القريحة وحسن الاجتهاد في أمور اجتهد فيها حيث يقول فيه مختتما تلك المناحي الأصولية التي أوصلها إلى ثلاثين :
( وبما قدمنا نكون قد رمينا نظرية استقلال المقاصد عن أصول الفقه بالفند ، وأبنا الاندماج بينهما اندماج الروح في الجسد ، والمعدود في العدد) علاقة مقاصدالشريعة بأصول الفقه 134
ونرى كذلك الشيخ سيد عبد الله ولد الحاج ابراهيم في معرض ذكره عن مسالك العلة لما تكلم عن المناسب قال :
ثم المناسب عنيت الحكمة $$ منه ضروري وجل تتمه
بينهما ما ينتمي للحاجيات $$ وقدم القوي في الرواج
دين انفس ثم عقل نسب $$ مال إلى ضرورة تنتسب
ورتبن ولتعطفن مساويا $$ عرضا على المال تكن موافيا
فحفظها حتى على الإنسان $$ في كل شرعة من الأديان
ثم من بعد ذلك مما يدل على أن المقاصد جزء من أصول الفقه ما أورده قبل ذلك قاضي الجماعة العلامة ابن عاصم رحمه الله في نظمه الرائق ( مرتقى الوصول إلى علم الأصول ) وهو نظم في غاية السلاسة والحسن والجمال بوب فيه للمقاصد وأتى فيه بأبواب لها علاقة وثيقة بالمقاصد كباب المقصد من التكليف وغيره وشروط التكليف يقول في مقدمة باب المقاصد :
مقاصد الشرع ثلاث تعتبر $$$ وأصلها ما بالضرورة اشتهر
واتفقت في شأنها الشرائع $$$ إن كان أصلا وسواه تابع
وهو الذي برأيه استقرا $$$ صلاح دنيا وصلاح أخرى
إلى غير ذلك
في هذه العجالة فقط يتضح لنا أن الرأي السديد بعد البحث والتنقيح والتحري هو أن المقاصد جزء من أصول الفقه فيه تستمد قوتها ، وإذا جعلت علما مستقبل كان ذلك أضر بها وأضر بعلم أصول الفقه ولا شك سيبعد المقاصد عن الدور الوظيفي لها والذي كما يقول أحد الباحثين المعاصرين منا ينبغي لنا أن نحرص على تطويره ليتطور هذا العلم ويكون له دور في توليد الأحكام وانضباطها به ، وعدم الزيغ وعدم الشطط.
هذا رأي العبد الفقير مستنده فيه آراء لعلماء أجلاء لهم مكانتهم العلمية المتخصصة ودورهم البارز في تطوير هذا العلم والعمل على أدائه لوظيفته على أحسن منوال وأتم تبيان ،
ومن يرى غيره فذلك محترم له ؛ إذا كان مستندا لشيء يمكن الاعتماد عليه فالسير في دورب علم المقاصد دون البحث والتحري مزلة قدم خطيرة ، وقد تهوي بصاحبها إلى منعرج خطير ؛ قد لا تحمد عقباه ، والله الموفق وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .