تشهد الإنسانية اليوم طرحين فكريين متناقضين في تناولهما واستشرافهما لآفاق الحضارة والإنسان:
الأطروحة الأولى تقوم على الصراع وحتمية الصدام والتناحر بين الحضارات وأتباع الأديان والمذاهب، وإن بترويع الآمنين بغير حق شرعي، قلبا لنواميس الكون وانقلابا على سنة التعايش والاختلاف، والفاعلون في هذا الحقل إنما يصادرون الحق المطلق، ويتجردون من قيم ومثل التعاون لإعمار الكون وتنمية الأخلاق، ويتبنى هذا الطرح ويروج له ويفرضه لا دينيون، يرون أن لا مكان في العالم المعاصر للدين وأهله، وكذا متعصبون دينيون تكفيريون سلفيون هنا وهناك، يفرضون معتقداتهم بالعنف والترويع والمصادرة.
أما الأطروحة الثانية فتقوم على مفهوم التكامل والتعايش والتقريب، ويتبناها المصلحون والحكماء والمؤمنون بالعدالة من كل الاتجاهات المذهبية، وتتلخص فكرة هؤلاء في أن المبادئ والقيم الدينية أساس للتناصر والاجتماع الإنساني، وأن مساحة ودائرة الاختلاف بين أهل الدين الواحد هي ثراء وتنوع وحرية ومجال حوار معرفي واستدلالي، ما لم يتحول للمصادرة والعدوان والإذلال للآمنين، ويتأتى ويتداعى وينساق هذا الخلق بالترويض والتزكية والقدوة والمجاهدة لرعونات النفس (التصوف)، وفرق في هذا بين فقدان الذات في السكينة المطلقة "النرفانا"، وبين فقدان الذات في التأمل الوجداني للجلال الإلهي (التصوف).
وتبقى القاعدة الناظمة لهذا الطرح أن "طهر النفس أرجح عند الله من إدراك الصواب"، ولطالما عانت الأمة ثلاثية مقيتة، هي: الجهل والجوع والجائحة؛ إذ كانت متكأ في الغالب للتكفيريين، وهو ثلاثي أوجده التسلط والقمع ومصادرة حاكمية المسلمين وإمامتهم باسم الله، فكانت متذبذبة تكون مع الظالم حين يغتصب حكم المسلمين، ولو ضرب الظهر وأخذ المال ونكّل وجوّع وسلب الحرية، فسيظل ظل الله في الأرض في هذا المفهوم، دون ضبط مقاصدي أو تأصيل أو آلية واقعية تتنزل به على سنة الله في الآفاق والأنفس والتدافع، فما ظُلمت الأمة ظلما أكثر مما ظُلمت من حكامها منذ الصدر الأول من تاريخ الإسلام.
لم يكن التطرف ولا الأصولية السالبة لصيقة بالإسلام؛ أي أهله وحدهم، بمعنى أن هناك أصولية شيوعية تمثلت بتعاليم ماركس ولينين، ومع كونها تمر بمرحلة اضمحلال وانحلال وتمزق إلا أنها هيمنت على مناطق واسعة من الكون لمدة تزيد على نصف قرن، فكانت كتابات كارل ماركس وفلاديمير لينين بمثابة الكتاب المقدس لهذه الأصولية، بحيث بقيت الأكثر ترجمة والأوسع انتشارا طوال 70 عاما.
1. ماركس – الرأسمال – المانيفستو الشيوعية لينين – ما العمل؟
هذه الأصولية حكمت بأنه ليس في السماوات أحد، فسَدَّت المساجد والكنائس، وحولت دور العبادة لمراقص وأندية ومرابض، لكن ما لبث الأذان أن عاد، وما نشبت أجراس الكنائس أن دقت في روسيا نفسها، ثم في آسيا الشيوعية.
2. أما الأصولية الثانية فهي الأصولية الرأسمالية، حيث الإيمان المطلق بقوى السوق كحل لكل المشاكل الإنسانية، فقامت مؤسسات، ذات نفوذ وضغط، في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وكندا برسم إستراتيجية عمل المصرف الدولي وصندوق النقد، مؤثرة في قراراتهما بشأن اقتصادات الدول النامية، وإخضاعها لمستلزمات الازدهار في الدول الصناعية.
3. أما على الصعيد الديني فسأكتفي بالإشارة السريعة إلى بعض المظاهر الأصولية الدينية كالآتي:
أ. هناك أصولية مسيحية أرثوذكسية تعتصم في إحدى المناطق الجبلية في شمال اليونان، حولتها إلى صومعة مغلقة حتى عن الدولة، وتدعو إلى حكم الكنسية وتعادي الإسلام، وكان أتباعها يطلقون على البطريرك "برثانيوس"، الذي يبشر بالانفتاح واحترام الإسلام، لقب "محمد برثانيوس".
ب. ولا يمكن إسقاط الطابع الأصولي عن الأدوار السياسية للكنيسة الكاثوليكية، بدءا بإسقاط الحكم الشيوعي في بولندا، حتى إسقاط الشيوعية كلها مع الاتحاد السوفياتي، وتصنف في هذا النسق حركة "أوبي سداي Opus Dei"، إحدى أخطر وأكبر التنظيمات الدينية السرية، وجيش الرب في أوغندا.
ج. أما الأصولية الهندوسية التي تزعمها "أدفاني" رئيس الحزب الهندوسي B.J.P، الذي تولى رئاسة الحكومة الهندية لسنوات، فقد قام في عام 1990 بتدمير المسجد التاريخي "بابري" في مدينة "إبودها"؛ لإقامة معبد للإله الهندوسي "راما" في مكانه ومن حجارته أيضا، كما هدد وعمد إلى تدمير 3000 مسجد آخر في الهند.
ومن فوق أطلال مسجد "بابري" ألقى خطابا قال فيه: لا تستطيع أي حكومة أن تحكم في الهند ما لم تحترم الإله "راما"، وبذلك هدد الديمقراطية العتيقة في الهند، التي رسخها "جواهر لال نهرو" و"إنديرا غاندي" وحزب "المؤتمر" بعد أن كسب 88 مقعدا في البرلمان الهندي.
د. حتى البوذية التي تُصنف أنها واحدة من أكثر العقائد الإيمانية الأرضية تسامحا قامت بإحراق 1000 كنيسة في سريلانكا وحدها، بسبب وقوفها في وجه الحركات التبشيرية المسيحية في هذه الجزيرة.
كما تدهورت العلائق بين المسلمين والبوذيين في جزيرة "بالي" الأندنوسية عقب تفجير الملهى الذي قتل فيه أكثر من 100 سائح، وكذا الحال في "ميانمار".
هـ. وتقوم الأصولية اليهودية بحفريات في المسجد الأقصى لبناء "الهيكل" مكانه، فوق القواعد التي يقوم عليها المسجد، وقد تم جمع المال اللازم للمشروع، ووُضع في حساب خاص في انتظار الساعة صفر، ويتولى معهد ديني في القدس تدريب رجال الدين على كيفية إدارة الهيكل، وممارسة الطقوس الخاصة به، وحتى إعداد الملابس الكهنوتية اللازمة، ناهيك عن اغتصاب كامل الأرض الفلسطينية، وارتكاب المجازر بحق الفلسطينين.
و. أما الأصولية الإنجيلية الأميركية المتطرفة، التي انتهجت الحرب الإعلامية وشراء ذمم الجوعى وأباطرة السلاح، فتستخدم الإعلام بشكل ذكي جدا، وقد أعرب أحد أقطابها، وهو موريس بسيريلو، عام 1998 عن أمله، من خلال ربط نشاط الحركة الإنجيلية العالمية بشبكة الأقمار الصناعية، في أن يعتنق مليون شخص الإنجيلية بحلول عام 2000، وفي 2001 بينت الإحصاءات أن ذلك تحقق بالفعل وزيادة، وكان مسرحه أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.
ويتنازع رسم الإطار العام للسياسة الخارجية الأميركية عاملان:
العامل الأول الشعور بأن لأمريكا دورا محوريا في نشر وتعميم مثاليات دينية ترتبط بالأصول التطهرية التاريخية للدولة، باعتبار أن أمريكا تحقق "مملكة الله" على الأرض بتعبير "ويليام باف".
والعامل الثاني تحقيق الاكتفاء الذاتي والانكفاء الداخلي والانعزال عن العالم الخارجي الفاسد، وتأمين السلامة الداخلية من خلال نظرية "القارة المنعزلة".
وأول غلبة للعامل الأول على العامل الثاني كانت عام 1889 بتوجيه من الحركة البروتستانتية، التي أيدت الثورة الكوبية ضد الحكام الكاثوليك، وكان هدفها نقل البروتستانتية إلى كوبا وبورتريكو والفلبين، من خلال استغلال نضال الشعوب للتحرر من الاستعمار الإسباني المرتبط في ذلك الوقت بالكاثوليكية.
وثاني غلبة لهذا العامل حدثت عام 1916 عندما استجاب الرئيس "ويلسون" لطموحات الكنيسة البروتستانتية للتدخل في أوروبا ضد ألمانيا القيصرية، لينتهي الأمر بـ"مبادئ ويلسون الـ14".
وثالث غلبة حصلت عام 1941 بعد الهجوم الياباني على "بيرل هاربر"، وهناك من يشكك حتى الآن في أن النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية لم تكونا وحدهما كافيتين للخروج الأمريكي من نظرية "القارة المنعزلة".
ورابع غلبة كانت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث لعب بعدها اليمين المتطرف دورا مباشرا في صناعة القرار السياسي الأمريكي.
وفي مطلع الثمانينيات برزت الأصولية الإنجيلية في أمريكا بـ 60 مليون أمريكي يعتنقون عقيدة الولادة المسيحية الثانية.
وقد حملت الأصولية الإنجيلية شعلتها إلى أمريكا اللاتينية والفلبين وإلى أجزاء من الكاريبي، وتجمع هذه الحركة التبشيرية بين فن إثارة المشاعر الدينية ومعاداة الشيوعية سابقا والإسلام في الوقت الراهن، فالكنيسة الإنجيلية المعروفة باسم "الكنيسة العالمية لمملكة الرب" أصبح لها من الأتباع في البرازيل - أكبر دولة كاثوليكية في العالم - ثلاثون مليون إنجيلي.
وتؤمن هذه الحركة بما يلي:
- العودة الثانية للمسيح؛
- وشرط هذه العودة عندهم قيام دولة صهيون وتجمع يهود العالم حوله فيها، ولذلك يعتبرون مساعدة إسرائيل واجبا دينيا، وليس مرتبطا بحساب المصالح؛
- كما تؤمن بأنه، وبموجب تدبير إلهي، سوف تتعرض الدولة اليهودية إلى هجوم من غير المؤمنين، وخاصة المسلمين والكاثوليك والأرثوذكس والملحدين، ما يحدث مجزرة في سهل "هرمجدون" بين الجليل والضفة الغربية، تستخدم فيها أسلحة كيمياوية ونووية.
مما سبق يتضح أن التطرف ظاهرة كونية عابرة للقارات، لم تسلم منها أمة من الأمم ولا مجتمع من المجتمعات البشرية، إلا أنه يجب الاعتراف أيضا بأن العالم الإسلامي تحول في العقود الأخيرة إلى مصنع للإرهاب والتشدد، فمن المسؤول عن ظهور هذا النوع من التيارات؟ وهل هو أصيل أم دخيل؟ وهل هناك جهات خارجية من مصلحتها عدم الاستقرار والتنمية في دنيا الإسلام؟ أم أن المناهج التعليمية في بعض الدول الإسلامية هي المسؤولة بالدرجة الأولى؛ لأنها تحارب العقل، وتعتمد السطحية والظاهرية، وتبتعد عن التأويل وتنزيل الأحكام على الواقع، مما يخلق بالضرورة جيلا من المتزمتين التكفيريين الحاقدين على الآخر (المخالف)؟
من المعروف لكل من له أبسط إلمام بالإسلام أنه جاء رحمة للبشرية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ولتنظيم علاقات ومعاملات الناس على أسس أفضلِ الأخلاق وأسماها، وأن مفاهيم مثل: الخير والعدل والسعادة والفضيلة وفعل الواجب... يُؤسس لها تأسيسا قويما في الدعوة المحمدية: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
والإسلام دين اجتماعي يرفض الخروج على الجماعة، وينكر التوحد لما يترتب عليه من أخطاء واختلالات، تنال من الوحدة العضوية للمجتمع، فهو دعوة لإصلاح النفس باستعمال الفضائل وحسن السيرة المؤدي إلى سلامتها في المعاد، وحسن سياسة الرعية المؤدي إلى صلاحها في المعاش، ولا يتأتى ذلك بدون الصدق مع الخالق، وحسن الخُلُق مع الخَلْق، يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: الناس إما أخ لك في الدين أو شبيه لك في الخلق، والأمثلة في هذا الصدد كثيرة في تراثنا الإسلامي، فالتطرف دخيل على الإسلام، وإن كان بالإمكان القول بأن الخوارج مثّلوا اللبنة الأولى للفكر التكفيري بإخراجهم لمرتكب الكبيرة من الملة وإباحة دمه وماله، لكنهم بذلك لا يعبرون عن روح الإسلام ولا عن منهجه، فمن المسؤول إذن ونحن في الألفية الثالثة عن إباحة إراقة دم البشر الذين كرمهم الله تعالى من فوق سبع سماوات؟
ربما كان للتنشئة المدرسية في بعض الدول الإسلامية الدور الأهم في ظهور التطرف، فقد يكون افتراض الخيرية في الإنسان أمرا مقبولا، لكن مجرد الاستعداد للخيرية والفضل لا يكفي، فلا بد من التربية الجيدة لإخراج الفضيلة من طور الوجود بالقوة إلى طور الوجود بالفعل.
إن محاربة كل ألوان الوعي الاجتماعي، وإحلال التجمد الفكري محل المحبة والتربية والتزكية؛ جعلت أعداء الأمة يركبون الموجة من أجل تمزيق الجسم الإسلامي وتركه يئن في غرفة العناية المركزة، ولعل الدواء يكمن في العودة لمجاهدة النفس، وتدريس ذلك التأمل الوجداني للجلال الإلهي (التصوف) لعلنا ننتصر على ذواتنا، ونسلك الدرب لتحقيق القيمة والرسالة التي من أجلها خلقنا، وبذلك نتحرر من العبودية للإنسان بتحقيق العبودية للملك الديان.
* أستاذ وباحث