النكتة الموريتانية: أداة نقد وتعبير عن الرأي وكسر للتابو

أحد, 06/09/2020 - 23:21

أحمد سالم ولد باب

لا يخلو اعتبار النكتة مجردَ طُرفةٍ أو مُلحةٍ تُضحِك الآخرين من اختزال وتبسيط، فقد كانت وما تزال وسيلةً للنقد الاجتماعي والسياسي، والتعبير عن الرأي، وكسر "التابو".

وفي المعاجم اللغوية تدور معاني النكتة على ثلاثة معان، هي: الإضحاك، والحث على التفكير، والتأثير في النفس.

وتشكّل هذه المعاني الثلاثة خصائصَ تضمن للنكتة أداء دورِها المقصود من لدن العقل الجمعي للمجتمع:

فالإضحاك يخفِّف وطأةَ الرسالة التي يُقصَد إرسالُها من وراء النكتة؛ نقدا كانت، أو رأيا، أو كسرا للتابو، ولذلك يُقال في المثل الشعبي: "الحَگْ يِنْگَالْ افْلِعْيَارَه".

والتّفكير يكشف حُجُبَ الرأي السائد، والأساطير، والأوهام، والآراء المسبقة، التي تُكَبِّلُ العقلَ، وتمنعه من رؤية الحقائق كما هي.

والتأثير في النفس يضمن قَبُول الحق بعد ظهوره والخضوع له، أو حث المتلقي على إعادة النظر في موقفه على الأقل.

يقول الباحث في علم الاجتماع محمد ولد الشيخ ولد عبدي لـ"مراسلون: «إضافة إلى دور النكتة في إضحاك المتلقي إلا أنها تبني فيه لا شعوريا موقفا من قضية معينة، أو تعدل من زاوية نظره حول هذه القضية أو تلك، فالنكتة بهذا المعنى أداة تغيير اجتماعي، إضافة لكونها وسيلة تنفيس عن الضمير الجمعي».

وحتى قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي عهود الاستبداد المطلق، وجد الموريتانيون في النكتة ملاذا آمنا للتعبير عن آرائهم، وأبلغُ مثال على ذلك قصة الأمير الذي أجرى فرسَه في سباقٍ فَلما سُبِقَتْ حَلَفَ لا يذكر أحد ذلك إلا قطع لسانه، فلما عادوا إلى الحي طفق الناس يسألون: من سبق؟ من سبق؟ فقال أحدهم: سِبْگِتْ الوَرّانية! (سبقت الأخيرة).

ويعتقد الباحث ولد عبدي أن النكتة: «تؤدي عدة وظائف أساسية يمكن إجمالها في الآتي:

- تحفيز الإبداع لدى منتجي النكتة الذين يدفعهم في الغالب تسلط النظام الاجتماعي إلى ابتكار أساليب جديدة غارقة في الرمزية والإيحاء.

- النقد الاجتماعي والسياسي للبنى السلطوية والأنساق الثقافية القائمة.

- التنفيس عن معاناة الأفراد والجماعات والمجتمعات جرّاء الضغط والكبت الاجتماعيين».

في الثمانينيات راجت نكتة تقول إن أحد الأئمة المشهورين هاجم فئة الفنّانين، فأذاعوا بين الناس أنه وقف يوم الجمعة خطيبا فقال: "إياكم وبِير محم، فإنه قليل الدسم، رديء الطَّعم...

وبيرBeurre هو الزبدة.

قالوا: فلقيه التاجر بعد ذلك فاسترضاه، فلما كانت الجمعة القابلة صعد المنبر فقال: عليكم ببير محم، فإنه كثير الدّسم، لذيذ الطَّعم...

ومكمن الطرافة في هذه النكتة أن الفنانين واجهوا السلطة الدينية العريضة للإمام بمحاولة تصويره للعامة كبائع دين بالدنيا، ثم في الصورة الكاريكاتورية للخطبة التي لم تُبْقِ من ملامحها سوى السّجع وأداتي التحذير والإغراء "إياكم" و"عليكم"، وتكتمل أركان الطرافة بأداء الخطبة عبر محاكاة النبرة المميّزة للإمام.

وتفضح النكتة المتاجرين بالدين وتُعَرِّي نواياهم حين تبين أن "وجهة هجرتهم أم قيس وليس المدينة"، فقد رأى أهل السوق مسجدا بُنِيَ فوق حوانيت، فقالوا إنه "الفُوگْ الفُوگْ امْسِيدْ، والتَّحْتْ التَّحْتْ أَبَّاتِيگْ! (ظاهره مسجد، وباطنه حوانيت).

وبالمنطق العقلي تُفْحِم النّكتة الدجالين وتعقل ألسنتهم، فقد أرسل أحدهم معاونا له إلى من يزعم أنه يملك تعويذة (عِگْدَه) لرد الضالة، يطلب منه استعمالها لرد سيارة سُرقت عليه، وكان صاحب "العِگْدَه" يعلم أن للرجل سيارتين: كبيرة وصغيرة، فسأل المعاون:

- أي سيارتيه ضاعت؟

فرد المعاون:

- أثر عِگْدِتْهُمْ مَاهِ وحده؟

إن سؤال "الدجال" هنا يستبطن أن "عِگْدَة" السيارتين تختلف باختلاف حجمهما، لكنه يُغفل أن "العِگْدَه" دعاءٌ لله تعالى القادر الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، وهو ما أشار إليه من طرف خفي جواب المعاون.

وتثير هذه النكتة التساؤل عن مدى الارتباط المزعوم بين "الدجال" والسماء، وعن صدق إيمانه بالغيبيات التي لم يستطع تجريدها عن قوانين الأرضيات.

وتكشف النكتة في بعض الأحيان بداهة التناقض في منطق بعض أدعياء الصلاح والولاية، فقد زعم أحدهم أنه لا يُبْرِمُ أمرا حتى يستشير فيه الخضر عليه السلام، فقال بعض الحاضرين على البديهة:

- ما نعرف يا شيخنا، يَغِيرْ الخَضِرْ أصلا ما يبْغِ كثرة السَّوْلاَنْ، بِيهِلِّي موسى عليه السلام نبي مرسل، وأَلاَّ امْنَيْنْ سَوْلُو أَثْلِتْ مرَّات كَالوا هذا فراق بيني وبينك!

ولا تُعَرّضُ النكتةُ بأصحاب السلطة الدينية، والدجالين والمتاجرين بالدين فقط، بل تنال ممن يتكاسلون عن الشعائر ويستثقلونها، فقد سئل أحد هؤلاء:

- تبغ رمضان ايموت؟ (هل تحب أن ينصرم رمضان؟)

فأجاب:

- أهيه، وايطيح في النار املي! (نعم، ويسقط في النار أيضا!)

وقد غذّى الصراع الجهوي والمناطقى النكتة، فَسَخِرَتْ بعض الجهات من بعض في طريقة الكلام، والعادات، والأسماء وقد استُخدمت في ذلك حتى الوجبات والعادات الغذائية، فيحكى أن رجلا نزل ضيفا عند قوم من أهل آدرار، فأكرمته ربة البيت بوجبة " لِكْسُورْ" المعروفة، فأعجب بها الضيف كثيرا، وسألها مستفسرا: هَاذِ اكْرَاطِتْ آشْ؟ فقالت السيدة في مرارة: هَاذِ اكْرَاطِتْ إنا لله وإنا إليه راجعون!

وقد غضب رجل من زميله الذي يبالغ في إظهار التنوين في اسم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يخيل للسامع أنه قال (محمدن)، وهو من الأسماء المختصة بمنطقة الگبله، فقال له:

- لماذا تنطق الاسم الكريم هكذا؟ آن گاع شكيت عن النبي صلى الله عليه وسلم عَادْ راجِل من أهل الگبله!

وقد تعدّت سخرية الموريتانيين من أنفسهم إلى السخرية من غيرهم، حين احتك الطلاب المبتعثون للدراسة في الخارج بذلك الغير، فقد سأل طالب موريتاني - لم يعقل بعدُ من لهجة المصريين سوى أنهم يبدلون القاف همزة - زميلتَه المصرية:

- أين تدرسين؟

- بَأْرَه (أقرأ) في كلية الإعلام

ترجم الموريتاني في ذهنه بسرعة تلك الهمزة إلى قاف فكانت النتيجة "بقره"، فرد قائلا:

- وأنا "آوْدَاشْ" في نفس الكلية!

وآوداش هو الفَتِيّ من البقر.

وكانت النكتة أهم سلاح استُخْدم في المنافسات السياسية، وكانت التوريةُ غالبا أداة النكتة في هذا المقام، وكان الشعرُ الشعبي (لغن) قالبه وصيغته.

يقول الإعلامي محمد سالم ولد أعمر لـ"مراسلون": «أخذ التنكيت عدة أبعاد، منها: الأدبي، ومنها العبارات، والقصص، والطرائف، ومنها التجسيدي الذي يعسكه الكاريكاتير. وما من شك أن للتنكيت تاريخا سياسيا منذ الاستقلال وما بعده».

ويرى ولد أعمر أن: «التنكيت السياسي تطور خلال فترة الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، وساهم فيه بقوة الإعلام الساخر، مثل صحيفتي "اشطاري"، و"شي إلوح فشي».

ترشح تاجران في مقاطعة المذرذرة (الصَّنْگَه)، وكان أحدهما يستورد الدجاج لتجارته، والآخر يستورد حليب "جهينة"، وكان بعض الفقهاء قبل ذلك قد أفتى بعدم حلية الدجاج المستورد، وثارت شائعة تقول إن حليب "جهينة" يحوي مواد تضر بالصحة، فقال أحد خصومهما:

أَشْحَالِكْ يَا الصَّنكَه وَايَّاكْ * تَعِرْفِي عَنَّ نِتْهَيْنَ

كَطَّيْنَ عَنَّ تَعْمِيلْ أَدْيَاكْ * الْخَارِجْ وِالْبَنْ جُهَيْنَ

وقد لا تتعدى وظيفة النكتة الكُدية (السؤال)، وتكون سرعة البديهة هنا هي سلاح المُنَكِّت، فقد دخل "لفكاك" مثلا على الشيخ محمد الحسن ولد الددو يوما، فسأله الشيخ:

- هل زرتنا اليوم في شأن الدين؟

- لا، بل في شأن شقيقته! يعني المروءة.

والدين والمروءة رديفان غالبا في الثقافة واللهجة الحسانية.

وسرعة البديهة في التنكيت هي المنقذ الوحيد لمن يتعرض للسخرية، فالقانون هنا أن "المغلوب هو آخر من يُضحك منه"، وتوضح هذا القانون نكتةٌ سائرةٌ تقول إن أترابا وُضِع بينهم رأس مشوي، فخطف أحدهم لسانه دون أن يشعر أصحابه، لكن أحدهم لمحه، فلما تحلقوا حوله، قال غامزا لأصحابه نحو المختطِف:

- أليس لهذا الرأس لسان؟

فأسرع الآخر يقول:

- بلى، لكنه ليس طويلا!

وهو هنا يستعمل أداة "التورية"، قاصدا أن صاحبه ثرثار.

تصفح أيضا...