قبل محاكمة وادي الناقة التاريخية 2004- 2005م كنت أعرف أن الأستاذ الدكتور المحامي محمد أحمد ولد الحاج سيدي نشأ في بيت عز وعلم في مدينة توارث أهلها مهنة القضاء التوثيق وتنظيم الحج والإشراف على ركبه الميمون، وعرفوا المحاماة والتوكيل على المرافعة منذ عدةقرون، ويلخص تلك العراقة المدنية قول الشيخ محمد المامي رحمه الله عنهم :"ليس في قطرنا مثلهم مدنيون".
بعد ذلك عرفت أن المحامي ولد الحاج سيدي لم يكتف بتلك الأصالة القضائية في مسقط رأسه وبين ذويه كما لم يكتف أجداده بعلم القطر فشدوا الرحال شرقا وشمالا وعادوا بأصول الكتب ونوادر المسائل والأساتيد، لكن صاحبنا اتجه غربا حيث تتعاطى نظريات القانون المعاصر فعب منها في جذورها الأصلية غير منسلخ من هويته ولا معاد لحضارته ولا متعقد من لغته، ودرس القانون هناك في أعرق الجامعات ودرّسه لأكثر من عشرين عاما.
وفي مهنة المحاماة التي ميعتها الأنظمة السابقة كان ولد الحاج سيدي صامدا ثابتا كالجبل الأشم تمر به القضايا والضغوط فيعلم أن ذكر الغد خير من مكسب اليوم فكسب بذلك سمعة طيبة وذكرا عبقا يتبعه حيثما حل سواء لدى جيرانه وجماعة مسجده أو المترددين على مكتبه أو طلابه المشيدين بمعارفه وسخائه.
أعرف أشخاصا طيبين حبب إليهم خلق هذا الرجل وحسن تعامله مهنة المحاماة بعد ما كانت لهم عنها نظرة مخلتفة...
لقد عرفت هذا المحامي عن قرب خلال المحاكمة التاريخية في وادي الناقة فكان نعم العون للمعتقلين والنصير لذويهم، لقد دافع عن جميع المتهمين بلا استثناء، وكان له الدور الأبرز في تلك الملحمة الوطنية، ونال بذلك شهادة من أحد أبرز محامي البلد -وهو في
طليعة اليوم منافسيه بالمناسبة - حين قال: "أشهد له بنبل المقصد وإخلاص النية في عمله"، لقد عرفه ذوو المعتقلين في كل الأوقات الحرجة متعاطفا معهم، يزودهم بتفاصيل أخبار فلذات كبدهم في تلك الزنازين الموحشة حتى كان يوافيهم بأخبار الأغذية والأدوية والمضايقات، وفي المقابل كان هو نافذة المعتقلين على العالم يجلب لهم الكتب والأخبار و"أتاي".
هذا مع علاقة حسنة متوازنة مع الأجهزة الأمنية والقضائية؛ فصاحبنا ممن يأخذ حقه ولا يشاغب؛ وهو منشغل بالجواتب الفنية لعمله عن السياسة وتفاصيلها.
وكان من أصالته القانونية في تلك المحاكمة أن نبه إلى الفرق فقهيا بين الحرابة والبغي وهي مفاهيم اختلطت في أذهان الناس يومئذ، كما أنه أول من رافع ضد التعذيب مبينا حقوق السجين في الإسلام وفي الفكر الغربي المعاصر كل ذلك بلغة جزلة دقيقة فنيا، ومن حصافته ونبل أخلاقه أنه هو الذي استضاف المحامين والحقوقيين الدوليين الذي دعاهم مع بعض زملائه من الخارج وأنزلهم الفنادق على حسابه ولم يعلم بهم أحد حتى رآهم الناس في المحكمة....
كانت كل جهود محمد أحمد ولد الحاج سيدي وأتعابه في محكمة وادي الناقة تطوعية لم يتقاض عليها فلسا ولا سعى من خلالها لجاه.
طبعا هناك آخرون أبلوا بلاء حسنا منهم الأستاذ إبراهيم ولد أبتي وسيدي محمد ولد محم ومحمد ولد أحمد مسكه، ومحمدن بن اشدو...
ترك ولد الحاج سيدي لدى أهالي المعتقلين ذكرى من النبل طيبة، وقد كانت والدة أحد المعتقلين تقرن الدعاء له بدعائها لابنها في صلاتها وحجها... ولسان حالها يردد مع أبي الطيب:
أَرُوحُ وَقَدْ خَتَمْتَ على فُؤادِي ... بِحُبِّكَ أَنْ يَحُلَّ بِهِ سِواكا
وَقَدْ حَمَّلْتَنِي شُكْرَاً طَويلاً ... ثَقِيلاً لا أُطِيقُ بِهِ حَرَاكا
أُحَاذِرُ أَنْ يَشُقَّ على المَطَايَا ... فلا تَمشِي بِنَا إلاَّ سِوَاكَا
محمد يحيى ابن احريمو