رحل في السادس من شهر أبريل/نيسان الماضي، المستشرق الأميركي الشهير الأكاديمي المؤرخ ويليام رو بولك، عن 91 عاما الذي عاش في دول شرق أوسطية وعربية قضى منها أوقاتا طويلة صحفيا وأستاذا جامعيا في بغداد والقاهرة، كما عمل باحثا ودبلوماسيا.
وكان آخر كتاب تُرجم للمستشرق الشهير -الذي ولد في 7 مارس/آذار 1929 في ولاية تكساس الأميركية- سِفْره الضخم الصادر عام 2018 "الصليبيّة والجهاد – حرب الألف سنة بين العالم الإسلامي وعالم الشمال"، بترجمة الدكتور عامر شيخوني.
شمال وجنوب
يبدو من العنوان أن أستاذ الأدب العربي في جامعتي هارفارد وشيكاغو سمى هذه العلاقات التاريخية المعقدة بصراع "عالم الشمال وعالم الجنوب"، أو "الشمال العالمي" الذي أصبح العالم الأول أو المتقدّم بدءا من القرن 15 حيث تسارعت الاختراعات فيه فتقدّم علميا واقتصاديا وعسكريا، في حين أن "الجنوب العالمي" صار اسمه العالم الثالث، والذي عاكس تقدّم الشمال العالمي نحو الانحدار في كل المجالات، حسب تعبير المؤلف.
أي أن بولك استعاض بذلك التوصيف عن المصطلحات الاستشراقية الشهيرة، من قبيل الشرق المتخلف والضعيف والخاضع لقوى الاستعمار والإمبريالية، والغرب المتطور والقويّ والمسيطر.
قسّم بولك كتابه الذي يقارب 550 صفحة من القطع الكبير، إلى ستة أجزاء، كل جزء منها يضم الكثير من المحاور والدراسات.
خبرات عمليّة ونظريّة
ما يُحسب لهذا الكتاب أنه لكاتب وباحث ولد وعاش وتلقى علومه في "الشمال العالمي"، ثم طوّر أبحاثه وأفكاره ومعارفه بالتماسّ المباشر مع الشرق، أو الجنوب العالمي الذي تخصص في دراسته.
وهو بالإضافة لتدريسه في جامعتين عربيتين، وحياته في الجزيرة العربية لسنوات، فقد زار وعاش ودرّس في مناطق آسيويّة وأفريقية وأميركيّة متعددة، كما شارك في الكثير من المؤتمرات السياسية والدولية، وكتب في المجلات المرموقة والمحكّمة.
صحيح أن هذه الدراسة، ودراساته السابقة، لن تكون الرائدة في هذا المجال، سواء الاستشراقي أو تفكيك الصراع بين شرق وغرب وشمال وجنوب، إلا أن دراساته، طوال سبعين عاما، جعلت منه واحدا من الباحثين المرموقين.
هذه الدراسات وجدت منذ مئات السنوات، وكانت تندرج سابقا تحت مفهوم الاستشراق، الذي نال من سمعة الكثير من الباحثين، في ارتباطهم بمخططات ومطامع الدول الاستعمارية، ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 ذهبت إلى مناح أخرى متشعبة ومقلقة.
حقائق واقعية
لن ينسى العالم التصريح الشهير للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن بعد تلك الأحداث: "هجم علينا الإرهابيون الجبناء لأنّهم يحسدوننا على حريتنا وديمقراطيتنا"!
في ذلك الوقت، وتحت تأثير صدمة تلك الهجمات، لم يُناقش الكثيرون مصطلحي "جبناء" و"الحسد".
ولكن رويدا رويدا صار الباحثون، على الأقل، يبحثون عن تلك الحقائق، التي ما زالت تظهر وتختفي بشكل مثير للتساؤل والاستغراب.
لم ينطلق بولك من تلك الأحداث، كما فعل كثيرون لتتبّع "ولادة الشرق الأوسط الجديد"، و"تجفيف منابع الجهاد الأصولي"، الذين اعتبروا الدراسات الاستشراقية السابقة، على الرغم من الاختلافات بينها، من الحقائق والبديهيّات، بل انطلق من اللغة العربيّة، لغة القرآن، ومن الشعر الجاهلي، ومن اختلاف الجمود والتطور بين اللغتين العربية والإنجليزيّة على سبيل المثال، وصولاً إلى ولادة النبيّ محمد عليه الصلاة والسلام ورسالته.
ذكريات مريرة وأخرى عظيمة
جاء الجزء الأول من الكتاب بعنوان "ذكريات عظيمة ويقظة مؤلمة"، متضمنا خمسة فصول تتناول الأسس الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للإسلام، ومحمد الرسول ورسالته، والخلفاء والفتوحات، والأيام العظيمة للخلفاء وتطور الإسلام، والشمال يتحرك نحو الجنوب.
ورأى بولك أن عصر الاستكشافات الأوروبية للعالم الإسلامي كان "فترة مؤلمة ومريرة"، وكلما ازدادت أمم الشمال العالمي قوة "ازداد اندفاعها نحو الجنوب، وتدميرها للدول الأصلية، وقلب مجتمعاتها وقمع دياناتها".
ويتتبع أثر ذلك منذ احتلال قوات القيصر الروسي إيفان الرهيب في عام 1552 لمدينة "قازان" المسلمة. وغزوات القوات الإنجليزية وقرصنتها للتجارة. وكذلك الوقت الذي فقدت غزوات القوات البرتغالية والإسبانية حيويتها -مع نهاية القرن 18- وأحرز الفرنسيون والبريطانيون تقدما ساحقا.
أدى توالي الغزوات وانتصارات الشمال العالمي إلى "انخفاض شديد في مستوى المعيشة والصحة العامة لدى السكان المحليين" في العالم الإسلامي الذين نجوا، ولم يكونوا ضمن ملايين الناس الذين قتلوا.
يناقش الجزء الثاني "ردود أفعال المجتمعات الإسلامية التقليدية"، وبالتالي مناقشة حركات وثورات السلطان العثماني المعزول سليم الثالث ووالي مصر محمد علي، والمقاومة الجزائرية، وثورة الجنود الهنود ضد الاحتلال البريطاني، وكذلك المهدية السودانية ضد الاحتلال البريطاني، وثورة الإمام عمر المختار ضد "الإبادة الجماعية الإيطالية"، وأيضا عبد الكريم الخطابي وحرب الريف في المغرب، وحرب الأتشيه ضد الإمبراطورية الهولندية، وصولا إلى حركة القائد الشيشاني شامل باساييف (1965 – 2006) ضد الإمبريالية الروسية.
ويتناول المؤلف في بحث منفصل اليقظة الإسلامية ودور المصلح جمال الدين الأفغاني صاحب الرسالة الشهيرة والبسيطة التي دعت إلى أن يرجع المسلمون إلى أصول دينهم إذا كانوا يأملون في تحرير أراضيهم من الإمبريالية.
في الجزء الثالث، ناقش بولك الحركات التي دفعت نحو "القومية العلمانية"، مارًّا على تجارب إيران وفلسطين والهند وكشمير وتركيا وأفغانستان والشرق الأوسط ما بعد الحرب العالمية الأولى.
"الرجوع إلى الإسلام"
أما الجزء الرابع فقد خصصه بولك لأفكار وحركات ترتجي الرجوع للإسلام، مثل "الثورة الإسلامية" في إيران، وحركة "الإخوان المسلمون" وأفكار سيد قطب، والحروب والشتات الفلسطيني، وحزب الله "أمة بلا دولة"، وحركة حماس في غزة، والإيغور والإسلام الصيني.
وهكذا يصل بولك إلى جزئه الخامس من الكتاب، الذي عنونه "الإسلام المحارب"، متتبعا ثورة جبهة تحرير مورو في الفلبين، و"الدولة الفاشلة" في الصومال، وحركة بوكو حرام في نيجيريا، وصولا إلى تنظيم القاعدة، مختتما مبحثه بتنظيم الدولة الإسلامية.
ماذا فعل الشمال بالجنوب؟
في الجزء السادس والأخير يطرح بولك العديد من التساؤلات، مثل ماذا فعل الشمال بالجنوب، أو ماذا فعل الجنوب لنفسه، أو أين نحن الآن، وإلى أين نستطيع الذهاب، كل ذلك في سبيل إجابته عن السؤال الأكبر، لماذا انتشر "الإرهاب" في عصرنا؟
وفي الوقت الذي يستنتج بولك أن الشمال العالمي والجنوب العالمي "يشعر كلاهما بانعدام الأمان، وأصبح العنف هو الطبيعي"، يرى سببين وراء انهيار النظام المدني وتدفق اللاجئين من آسيا وأفريقيا نحو الشمال العالمي.
السبب الأول لذلك الانهيار وانعدام الأمن، بحسب بولك، هو التاريخ الطويل للإمبريالية من الغزو والاحتلال والإذلال والإبادات الجماعيّة. بينما يجد أن السبب الثاني يكمن في "طرد إسرائيل للفلسطينيين من وطنهم، وهو نتيجة مباشرة لمعاداة السامية في أوروبا التي حرّكت أحداثا أدت للمشكلة الفلسطينيّة".
كتاب بولك، كما كتبه السابقة، يستحق الكثير من النقاش والنقد والإضافة، ويؤرخ أحداثا ربما غفلت عنها الدول التي وقعت فيها تلك الأحداث، ويحسب له البحث الأكاديميّ الموضوعي بلغة واضحة ومبسّطة للوصول إلى النتائج التي قد لا يرضى عنها الشمال العالميّ.
برحيل ويليام رو بولك تكون حقول الدراسات التاريخية والاستشراقية والسياسية قد خسرت واحدا من كبار الباحثين، والذي عاصر كبار المستشرقين ورواج أفكارهم ثم اندثارها لصالح ظهور استشراق آخر أكثر عدائيّة تجاه الجنوب العالمي، الذي ما زال يتابع بؤسه واستغلاله من قبل الشمال العالمي بأوجه متعددة.
الجزيرة نت