أخوكم في الدين والوطن ضل طريقه منذ يوم أمس عندما خرج باكرا من منزله لقضاء بعض شأنه..
ما كدت أتجاوز عتبة الباب حتى تصلبت في مكاني منبهرا من عظمة ما رأيت: شارع ضخم تتهادى على جنباته عمارات شاهقة؛ وعلى بلاطه سيارات راقية من مختلف الأحجام والألوان والماركات..
الأضواء الملونة تزين كل شيء، والقلة التي خرجت مبكرة من منازلها مثلي ترفل في أحسن الثياب وأرقاها.. وجوه الناس ناعمة مؤنسة، ونضرة النعيم بادية في كل شيء..
تقدمت بحذر وانا أفرك عيني غير مصدق شيئاً مما أرى؛ لكأني في حلم أو أنا في عاصمة الضباب أو في مدينة لم أر مثلها إلا في أفلام الهوليوود.
فجأة انتبهت؛ يبدو أنني قطعت شوطا طويلا دون أن أدرك؛ فلم أعد أعرف من أين جئت ولا كيف أتيت... توقفت عن السير، الوقت صار ضحى، نظرت غير بعيد فإذا بساحة جميلة مزينة بالورود الحمراء والأشجار المثمرة تفاحا أحمر، وفي وسط الساحة تمثال ضخم لجنرال من فولاذ أغبر، في عينيه حمرة كالوعيد، يحمل بيمينه راية يتوسطها هلال ونجمة ذهبيان على أرضية خضراء محاطان بخطين أحمرين، وفي يساره كتاب حمل عنوان: "دستور الجمهورية الثالثة"، وتحت قدمه اليمنى شيخ يغط، وتحت قدمه اليسرى جارية تئن وقد كتب على وجهها بلون الحبر الانتخابي "ستواصل التصويت دون توقف"..
اقتربت من التمثال أكثر فكم راعني حين رأيت أحد عشر كوكبا وزيرا وامثالهم مستشارين، وضباطا، ورجال أعمال، وقادة أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني؛ وقد خروا كلهم ركعا للتمثال وهم يتمتمون بصلوات لم اتبين منها غير كلمات متفرقة: المجد، الزعيم، المؤسس، العزيز، المأمورية، الشهداء، مئة في المئة، الفقراء...
أصابتني حالة لا أعرفها: خليط من العجب والإعجاب والرهبة والتقزز.. آثرت بعدها الابتعاد عن الميدان كله، لكن الأرض تنكرت لي بكل ما عليها، فلم اعرف في اي بلد قذفتني الأقدار..
انتبهت لشخص يقف بجانبي، نظرت إليه فإذا به ساهم ينظر إلى ما حولنا نظرة المتفكر أو نظرة المستنكر! سلمت عليه فرد علي السلام؛ ثم سألته من أين انت؟ فرد علي: من هنا من أهل العاصمة؟
فسألته:أين نحن من وسط المدينة؟
نظر إلي متفرسا أو مستغربا، ثم قال كالمستنكر: ألست من أهل موريتان؟ فأجبت: بلى! ولم السؤال؟ فرد علي دون أن تبارحه ملامح الاستغراب: "إن هذا كلام أهل موريتانيا القديمة، الجمهورية الأولى والثانية، أما موريتانيا الجديدة، موريتانيا الجمهورية الثالثة فليس فيها وسط، عن أي وسط تتحدث؟
نزلت كلماته علي كالصاعقة؛ آه يالي من غبي.. كيف نسيت أن المجلس الدستوري أجاز بالأمس نتائج الاستفتاء، وأننا تلقائيا أصبحنا في الجمهورية الثالثة!! نظرت إلى نفسي في واجهة محل مرمري بجانبي؛ فأنكرتها.. أحسست شعورا غامرا بسعادة وانتشاء لا يوصفان.. لكن سرعان ما انتابني حزن شديد وكآبة غريبة حين تذكرت منزلي في الجمهورية السابقة.. لقد ألقي بي قسراً في هذه الجمهورية قبل ان اتهيأ لذلك؛ وقد كان في خلدي أن أصطحب معي بعض الأغراض الثمينة.. كصورة من علم الاستقلال، وشهادات للتاريخ عن عظمة ووطنية رجال ونساء بررة خدموا هذا البلد أحياء وامواتا، وسطروا أروع صور التضحية والفداء حين لم يمنعهم ضيق اللحود من العودة للوجود في الخامس من شهر أغسطس 2017 للتصويت بنعم وفاء للشهداء وللزعماء العباقرة الأوفياء..
وها أنا الآن أناديكم يا أصدقائي مستغيثا من منكم يدلني على بيتي في الجمهورية الراحلة، لآخذ فقط بعض الأغراض والتذاكر ثم أعود لأواصل الاستمتاع معكم بنعمة جمهوريتنا الثالثة الفريدة.
فإن كنتم مثلي لم يعد فيكم من يعرف إلى تلك الجمهورية سبيلا؛ فدلوني على أقصر طريق للوصول إلى الجمهورية الرابعة؛ فقد صار شوقي إليها كبيرا..
فإن اعجزكم ذلك أيضا؛ فلا أقل من أن تتركوني في غفوتي هذه ولا تكدروا علي صفو أحلامي..
احلامكم سعيدة....