لا نستطيع في الواقع - في سطور قليلة - مثل هذه الإحاطة بالمتون العلمية الكبرى التي مثلت منعطفا كبيرا في تاريخ الثقافة الإنسانية عموما و الثقافة العربية الإسلامية على وجه الخصوص، و ذلك من حيث المضامين و الحقائق المادية البليوغرافية لكل متن من هذه المتون التي مثلت في حقيقة الأمر وجوه جدة لافتة في ميادين متعددة، ابتداء بالفقه و أصوله و العقيدة و قواعد اللغة و الأدب و التاريخ و السير و كتب الطبقات و التصوف و منظوماته السلوكية إلى غير ذلك من المجالات التي أغنت التاريخ الثقافي الشنقيطي و أغنته هذه الثقافة بشروحها و تعاليقها، حتى أن بعض المتون العلمية الكبرى اقتبست من المتون ذات المنشأ الشنقيطي ذاته، مثل اقتباس المفكر و الفقيه أبي عبد الله ابن الأرزق المالقي الأندلسي ( ت 899 هـ – 1491م) في كتابه " بدائع السلك في طبائع الملك " من كتاب الإمام الحضرمي ( ت 489هـ 1095م ) " السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة " و اقتباس المفكر الكبير ابن رضوان ( ت 783هــ 1381م ) في كتابه " الشهب اللامعة في السياسة النافعة " من كتاب الحضرمي كذلك، فكان كل من هذين العلمين البارزين في سماء فلسفة السياسة في الإسلام يعود إلى متن كتاب الإمام الحضرمي و يحيل إليه بوضوح تام، كما كان شيخ الإسلام الإمام أحمد ابن تيمية يحيل كذلك إلى كتب الإمام الحضرمي و خاصة في العقيدة حيث نجده في الصفحة 261 تقريبا [ أو ما يقاربها حسب الطبعات ] من الجزء الثالث من الفتاوى يحيل إلى كتاب الإمام الحضرمي المعروف في العقيدة تحت عنوان ( رسالة الأسماء في مسألة الاستواء )، فيذكر أن أبا عبد الله القرطبي استند على هذا الكتاب في مؤلفه المعروف ( بالأسنى في شرح أسماء الله الحسنى )، و قد اعتمد ابن خلدون في مقدمته على كتاب الإمام الحضرمي دون أن يحيل إليه و إن كان يورد بعض الفقرات من نص الحضرمي بكل وضوح
هذه متون أغناها الإنتاج العلمي الثقافي الشنقيطي و استندت عليه في واقعها النظري الخاص بصورة بارزة، أما المتون الكبرى التي أغناها الإنتاج العلمي الشنقيطي في مستوى آخر بالشرح و التعليق فهي بالمئات، لكننا نذكر أمثلة لافتة منها خضعت لفعل الشرح و التأويل في هذه الربوع فأغنت بفحواها المتميز الثقافة العالمة في بلاد شنقيط التي انفردت هي الأخرى بوصفها ثقافة بدوية عالمة فريدة في العالم حققت ازدهارا كبيرا في الوقت الذي كانت بلاد العرب و المسلمين تئن تحت وطأة الانحطاط و انحسار التقدم العلمي و الإبداعي خلال القرن التاسع عشر الميلادي
و من أمثلة تلك المتون إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة للإمام المقري التي يعتبر أول شرح لها هو الشرح الذي قام به قاضي شنقيط محمد المختار بن الأعمش العلوي المتوفي سنة 1107هــ، و أول شرح لمتن مختصر ضياء الدين خليل في الفقه، هو الشرح الذي أدخله الوادانيون لأول مرة و هو المعروف بالحطاب حيث خضع للكثير من التأويلات و الشروح، و كذلك متن حكم ابن عطاء الله السكندري في التصوف الشاذلي الذي أدخله إلى بلاد شنقيط العلامة التواتي التيشيتي المتوفى سنة 1138هـ
و قد أدخل مؤسسو حاضرة وادان التاريخية مؤلفات القاضي عياض و شرحوها، لأنهم تتلمذوا عليه قبل إنشاء الحاضرة سنة (536هـ 1142م ) و ذلك مثل: صحيح مسلم ـ الشفا بتعريف حقوق المصطفى ـ مشارق الأنوار على صحاح الآثار ـ الغنية ـ و ترتيب المدارك وتنوير المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك إلخ....
كما دخلت إلى ولاتة متون كثيرة خضعت للشرح و التأويل و التبويب و التعليق، مثل الغنية لطالبي الحق في التصوف للعلامة الشيخ عبد القادر الجيلاني ( ت 561هـ 1166م ) و كتابه الفيوضات الربانية وكثير من المتون في مجالات مختلفة
تلك أمثلة قليلة جدا من المتون التي أغنت الثقافة الشنقيطية العالمة عموما و أغنتها هذه الثقافة في المستوى الثاني مثل المتون العلمية الكبرى التي اعتمد مؤلفوها على كتب شنقيطية المنشأ
و لعل ذلك ما يدعونا إلى مواصلة هذا الجهد العلمي المتميز للشناقطة في عصور تأسيس حواضرهم التي امتد إشعاعها العلمي عبر أصقاع كثيرة من العالم، لكن بروح أكثر انفتاحا على الثقافة المعاصرة للاستفادة مما شيده الآخر لأن، العقل الإنساني عقل واحد لا يتجزأ، و ما بناه الإنسان هو تراث مشترك بين الإنسانية جمعاء، لكن بصورة تضمن لنا أبدا حماية ثوابتنا و خدمتها لنكون قادرين أكثر فأكثر على استغلال هذه الثوابت الثرية في مضامينها و العميقة في مدلولاتها، و ذلك استرشادا بأنه في الواقع، لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
إننا نملك موروثا لا يضاهيه موروث في العمق و الثراء و الشمولية و العالمية، و ما زال الكثير منه مطمورا في غياهب المكتبات و الكنانيش.