العرب اللندنية – بدأت الكثير من القوى الوطنية السودانية تشعر بالقلق مما يجري من تجاذبات سياسية في صفوف قوى الحرية والتغيير التي قادت الحراك الثوري وتمكنت من إسقاط نظام عمر البشير.
وجاء منبع القلق من عدم استبعاد التفتت والتشرذم وربما التلاشى، بعد قيامها بدور حيوي في تشكيل الحكومة الانتقالية وترشيح غالبية أعضائها، وتصميمها على أن تصبح رأس الحربة في مفاوضات السلام التي تجريها السلطة الانتقالية والجبهة الثورية في جوبا، والتعجيل بتعيين حكام الولايات واختيار أعضاء المجلس التشريعي، أو التهديد بإسقاط الحكومة.
فتحت هذه التدخلات المجال لخروج الخلافات إلى العلن في جسم تحالف الحرية والتغيير وحكومة عبدالله حمدوك، وفشلت محاولات احتوائها مبكرا. وأصبح من الطبيعي صدور تصريحات وظهور مواقف متباينة بين قوى وأحزاب كانت ضمن مصفوفة سياسية واحدة.
لم يعد الحزب الشيوعي أو حزب الأمة القومي، هما صوت النشاز في المنظومة التي لعبت دورا مفصليا في الحراك الثوري وتهذيب اندفاعاته الشبابية ويمثلان القوى القديمة التي تصدرت التحالف، وامتد النشاز إلى عناصر محسوبة على القوى الجديدة التي صعدت على أكتاف الحراك الثوري، وهي تفتقد الخبرة والتجربة والحنكة السياسية.
خروج الخلافات إلى العلن
ترى هذه القوى أنها الأحق بأن تكون في مقدمة الصفوف وليست ظهيرا شعبيا للسلطة الانتقالية، وتكتفي بمساندتها في الشارع والتصدي لفلول النظام البائد، وغض الطرف عن أخطائها. وتصر على المطالبة بالمشاركة الفاعلة في كل كبيرة وصغيرة تقوم بها الحكومة التي لم تحقق حتى الآن المأمول منها سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
أدمنت القوى الجديدة سلاح التظاهرات، وتعول عليه في كل المطبات التي تواجهها، للدرجة التي جعلتها لا تفرق بين التظاهر في وجه حكم البشير للتخلص منه وما ترتب على حكمه الطويل من أوجاع، وبين التظاهر في وجه الحكومة الانتقالية لتصحيح أوضاعها، دون أن تدري ما يمكن أن تفضي إليه التصرفات حيال الأخيرة من تداعيات قد تقود إلى سقوط حكومة حمدوك، ومعها كل الأطر السياسية التي قامت بجوارها، الأمر الذي تستفيد منه القوى القديمة.
تحاصر القوى الجديدة الحكومة الانتقالية، وتعمل على تضييق الخناق عليها وإحراجها سياسيا بالتظاهر في وجهها لتحقيق أهداف معينة، وهي تدري أنها تضع العديد من العصي في عجلات العربة التي يقودها حمدوك ورفاقه الجدد، كأنها نبذتها ولم تعد تؤمن بقدرتها على تحقيق تطلعات الحراك الثوري الذي كاد يحملها على الأعناق عند اختيارها.
تتكرر الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها قوى ثورية في كل من مصر وتونس وليبيا وسوريا، عندما اعتقدت أنها الوحيدة التي تفهم في أدبيات الثورة والحكم، وصاغت سرديات سياسية مختلفة، ودخلت في تراشقات مع كل من تولوا السلطة، ولم تترك قريبين منها أو بعيدين عنها إلا واصطدمت بهم. وجاءت النتيجة مخيبة، وكاشفة عن انحراف تام في شعارات الحراك، والدخول في معارك طويلة مع القوى التي أسهمت فيه، وأُنْهِك الجميع واستُنْزِفت المكونات الجديدة، وباتت الساحة مفتوحة للقوى الحية والميتة.
تبدو القوى السودانية الجديدة تسير على الدرب العربي، وظهرت عليها أعراض كثيرة من الأمراض ذاتها؛ تضخم معنوي في المحتوى السياسي الذي تقدمه قيادات شبابية جامحة، ورغبة عارمة في السيطرة على مقاليد الأمور، ودس الأنوف في كل القضايا من غير دراية حقيقية.
علاوة على توجيه انتقادات متتالية للسلطة الانتقالية، وعدم الممانعة في إظهار الغضب من الأداء العام، ورفض حاسم لبعض التوجهات الحثيثة التي تقوم بها الحكومة، وتهديد دائم باستخدام سلاح التظاهرات في استدعاء فاضح لشعار ساخر تردد في شوارع وميادين ثورية سابقة، قال “تسقط حكومة الرئيس القادم”.
تتكرر الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها قوى ثورية في كل من مصر وتونس وليبيا وسوريا، عندما اعتقدت أنها الوحيدة التي تفهم في أدبيات الثورة والحكم، وصاغت سرديات سياسية مختلفة، ودخلت في تراشقات مع كل من تولوا السلطة
تؤكد هذه العبارة أن الرفض سمة أساسية. أجادت الحكومة أم لا. والتظاهرات سوف تظل مرفوعة كسيوف خشبية في وجه من لم يستجيبوا لأوامر من يقفون خلفها. فإما القبول والسمع والطاعة، أو السقوط في فخاخ سياسية متعددة.
تجاوز السودان هذه السخرية المريرة، وبدت القوى الجديدة على استعداد لتطبيق الشعار السابق عمليا. ففي ظل سخونة الأجواء التي تعيشها البلاد اندفعت شريحة من مؤيدي الحراك وراء رفض الكثير من الخطوات التي أقدمت عليها الحكومة، ولم تدر أن هناك مندسين سيجنون ثمار الغضب المستمر، وأن الأحزاب القديمة وعناصر نظام البشير متربصة، ويمكن أن يلتقيا عند هذه النقطة، خاصة أن العديد من الأحزاب التي انخرطت في الثورة كانت على علاقة جيدة بالنظام البائد. تحالفت وناورت وراوغت وقبضت ثمنا لذلك.
انهارت غالبية القوى الحديثة في الدول العربية التي شهدت انتفاضات وثورات، وأحبطت قطاعات شعبية رأت فيها نموذجا للتغيير، ولجأت السلطات الجديدة إلى توظيف الأحزاب التقليدية التي حكمت أو عاشت في كنف أنظمة سابقة.
نعم لم تعد الأمور كما كانت تماما، لكن من تفاءلوا بالثورات وأيدوها ووضعوا عليها آمالهم وأحلامهم في الحرية والتغيير نحو الأفضل، اكتشفوا خطأ رهاناتهم. منهم شريحة كبيرة آثرت الانسحاب والانزواء، وأخرى لا يزال يحدوها أمل في النصر والبقاء.
تؤدي التصرفات الحالية التي يقوم بها تجمع المهنيين، ويمثل الفئة الرئيسية في قوى الحرية والتغيير، إلى نتيجة مماثلة لما جرى في دول عربية عدة، ويكرر أخطاءها في التعامل مع واقع جديد ومعقد. فحجم التفاعل مع دعوات التظاهر والاحتجاج يتراجع. وسقف الطموحات عليه ينخفض. الأمر الذي يقدم فرصة من ذهب للقوى القديمة بأطيافها المتباينة، في السلطة والمعارضة سابقا، للسعي نحو تصدر المشهد السياسي. وتشير هذه النتيجة إلى خطورة السذاجة التي ارتسمت ملامحها مبكرا على قوى الحرية والتغيير.
وتضع الشق المدني في السلطة الانتقالية أمام خيارات صعبة ومحدودة. فالظهير السياسي الذي تحتمي به ينفضّ من حولها. والعراقيل التي يضعها فلول نظام البشير تتزايد وتتشعب وتتجاوز مساحة الفضاءات الأمنية والسياسية والاقتصادية لتصل إلى القواعد الاجتماعية. والتحديات التي تحملها الأزمات المتراكمة في السودان تتصاعد.
تمنح هذه المعطيات الأمل لكثير من المتربصين بالقوى الجديدة. وتفرض على الحكومة عدم التمادي في تقويض العناصر القديمة، خوفا من حدوث خلل في هياكل الدولة، وخشية أن تقوم روافدهم بتسريع وتيرة الضغوط العنيفة على السلطة الانتقالية، فتربك الأجهزة الفاعلة القادرة على القبض على زمام الأمور.
لذلك تمثل المضايقات التي يقوم بها أشخاص وقوى داخل الحرية والتغيير تهديدا جسيما للحكومة ومشروعها للوصول إلى سلطة مدنية كاملة، وتقوض أيضا فرص الوفاء بالتوقيتات الزمنية لإنهاء المرحلة الانتقالية وفقا للوثيقة الدستورية.
مهادنة غير محسوبة
طغت مناوشات قوى الحرية والتغيير على جزء معتبر من الطموحات التي تسعى إليها حكومة عبدالله حمدوك. وقد تجعلها تهادن القوى القديمة في مغامرة غير محسوبة. وهي تعلم أن أحلام العودة السريعة إلى السلطة لا تزال تراودها.
بدأت رسائل التهدئة تظهر في إشارات طفيفة مؤخرا. منها موافقة الحكومة على سفر علي الحاج القيادي بحزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الراحل حسن الترابي، ولقاء حمدوك المفاجئ مع غازي صلاح الدين العتباني، رئيس ما يسمى “الجبهة الوطنية للتغيير”، وحركة الإصلاح الآن الإسلامية سابقا. وهي من الدلالات التي تضاعف من الفجوة داخل قوى الحرية والتغيير التي ترفض قطعيا الحوار أو التعاطف مع كل المنتمين إلى الحركة الإسلامية.
أخذت بعض القوى الوطنية المستقلة تشعر بالقلق من تراجع الدور الشعبي لقوى الحرية والتغيير، وسحب البساط من تحت أقدامها لحساب قوى أخرى مناوئة لها، ما يؤثر على تحركات الحكومة لتثبيت أركان الحكم المدني في السودان من دون روافد تنتمي إلى الحركة الإسلامية، ويفرمل التصورات الرامية إلى صياغة طبقة جديدة تستطيع مواجهة التحديات المتعلقة باستكمال مسيرة السلام الشامل، وتهيئة البيئة لانتخابات نزيهة مع نهاية المرحلة الانتقالية.
أصبح الأمر الآن على المحك. فضعف القوى الجديدة يفتح الباب على مصراعيه لدخول القوى القديمة. وكي يكون السودان استثناء عربيا ويتخطى هذه الإشكالية على تحالف الحرية والتغيير المراجعة وتصحيح أوضاعه سريعا، وصياغة مفاهيم مشتركة لدعم الحكومة الانتقالية، وتوفير الغطاء الذي يمكنها من مواجهة المطبات، وصد العواصف دون انحناءات سياسية، لأن طوفان الأحزاب القديمة ينتظر الفرصة، مسنودا بواقع يضج بالتناقضات.
الكاتب محمد أبوالفضل
جريدة العرب اللندنية