عندما صدر قبل ثلاث سنوات كتاب «الدولة المستحيلة» للباحث الكندي - الفلسطيني المتميز «وائل حلاق»، خلف جدلاً واسعاً بين المتخصصين في الفكر السياسي الإسلامي الوسيط، بقدر ما أحدث ردة فعل قوية في حقل الإسلام السياسي بنقده الجذري لفكرة «الدولة الإسلامية»، التي اعتبرها مفهوماً متناقضاً مع التقليد الإسلامي الذي يتمحور حول المركزية الأخلاقية للجماعة، التي تتنافى مع التصور السيادي التقني للدولة الحديثة.
ولقد كنت من أوائل من كتب حول نظرية «حلاق»، التي تستند إلى مرجعية فلسفية وقانونية كثيفة لم يطّلع عليها إلا القليل من مراجعي الكتاب ونقاده. لقد بدا لي أوانها أن أطروحة «حلاق» أبرزت تهافت المقاربة الأيديولوجية التي يستند إليها الإسلام السياسي في تصوره للدولة من خلال ما كشف عنه من عدم تلاؤم البنية العقدية في الإسلام مع فكرة تجسيد السياسة للمطلق وتجسيد الدولة للدين، وتلك حقيقة لا مراء فيها، كما أنه بيّن أن الجانب السياسي في الدين من حيث هو تدبير للشأن الكلي منوط بالجماعة وليس بالدولة، وتلك هي الرؤية التي بلورها في أعماله الرائدة حول تاريخ الفقه الإسلامي، بيد أن النقص الذي بدا لي في الكتاب، هو أنه كرّس قطيعة المجتمعات المسلمة المعاصرة مع الدولة الحديثة عندما اعتبرها «مستحيلة» في النسق العقدي والمعياري الإسلامي، ولعل هذا القصور راجع إلى مرجعياته الفلسفية الحديثة في النظر إلى تجربة الدولة القومية الحديثة في الغرب، التي هي في غالبها مستمدة من مدرسة «كارل شميت» وامتداداتها الراهنة. إن المطلوب هو الرجوع إلى خلفيات تدبير المسألة الدينية - السياسية في التجربتين الأوروبية المسيحية والعربية الإسلامية، للوصول إلى الحلول الممكنة لمأزق الدولة في نمط الاجتماع الإسلامي ،حيث نشهد حالياً انهياراً كلياً لنظام الدولة في العديد من الساحات لأسباب من أهمها تشوهات وانحرافات العامل الديني.
في هذا السياق، يتعين الرجوع إلى فيلسوف الحداثة السياسية «جان جاك روسو» الذي أكد على عكس هوبز على معايير الاجتماع المدني، معتبراً أنها لا تتركز في دوائر التعاقد المصلحي ( العدالة بمفهومها الإجرائي التوزيعي ) بل في الرابطة الروحية العضوية التي هي في نهاية المطاف رابطة دينية. ومن هنا جذور المشكل الديني السياسي التي تتلخص في كون الدين ضرورة لقيام الاجتماع المدني، وإنْ كانت السلطة الدينية مؤذنة بالاستبداد والأحادية.
ما نبه إليه روسو ( ودرسه بعمق لبو شتراوس وحنة آرندت)، هو أن نظام الفصل بين الدين والدولة في التجربة الأوروبية الحديثة، وإن كان في بعض جوانبه حلاً فرض نفسه ( ضماناً للسلم الأهلي)، إلا أنه أفضى إلى إفراغ السياسة من مضمونها بنقلها من مفهوم الفضيلة المدنية والاجتماع المشترك، إلى مفهوم التسيير التقني القانوني. القانون بمفهومه الحديث هو مظهر سيادة الدولة ونتاجها، ولذا يختلف عن التصور اليهودي - الإسلامي للشريعة من حيث هي المعايير القيمية الجماعية المتميزة عن الدولة والمفيدة لقبضتها وسلطتها. هذا التحول لم يكن ليحدث لولا التصور الحداثي للحرية من حيث هي التعبير عن الإرادة الذاتية المستقلة والمنفصلة عن الكلي الجماعي.
واذا كانت الجماعة أدت تاريخياً دور المقوم المدني لنمط الاجتماع الإسلامي، كما اضطلع الفقه من حيث هو مدونة معيارية دور القانون الأخلاقي للجماعة، في حين نظر دوماً للدولة من زاوية وظيفتها العملية كضامنة للسلم الأهلي وحارسة للدين، فإن مصالحة المسلمين مع الدولة الحديثة أصبحت ضرورية وملحة. لأجل هذا الغرض يتعين الخروج عن الطوبائية العدمية للإسلام السياسي، التي تنقل مطلقات الدين العقدية والأخلاقية إلى المجال السياسي، فتفضي إلى نفي الشرعية الدينية للدولة القائمة، وإن كان الحل العلماني الكلاسيكي ليس خياراً ناجعاً في المجتمعات المسلمة، لأنه يفضي إلى تكريس الانشقاق الديني في المجتمع، الذي هو دوماً الداء العضال، الذي عانت منه الأمة في تاريخها السياسي.
لا بد للدولة في المجتمعات المسلمة من أن تتولى مسؤولية الإشراف على الحقل الديني، وتعمل على تحصينه من الانشقاق، لكي يبقى الدين مرتكزاً للاجتماع الأهلي وللهوية الجماعية، بما يعني في الآن نفسه وبنفس المنطق الحيلولة دون تحويل المطلق الديني إلى سلطة إطلاقية إكراهية تقيد الحريات، وتلغي تعددية الجسم السياسي والمجتمع الأهلي.
د. السيد ولد أباه*
أكاديمي موريتاني