ربما يُقاس اغتراب الفرد بكمية انخراطه أو انسجامه في المحيط الذي يعيش فيه. ومفهوم الاغتراب لا شك رافق الفرد منذ بداية التاريخ وفي جميع مراحل التطور البشري. هناك التطور الفكري والآيديولوجي والثقافي والوعي المادي. مقياس انخراط الإنسان في مجتمعه ومحيطة وقدرته على الإنتاج وفهم الواقع الاجتماعي فهماً صحيحاً يجعل الأفراد أكثر قرباً أو بُعداً عن الاغتراب.
الاغتراب أو الخروج على القبيلة كما في مرحلة الصعاليك لا يزال في تصوري متجسد في مجتمعاتنا، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي تساهم في شل حركة التطور الاجتماعي. أي أن الفرد لا يستطيع أن يكون له رأي مستقل أو يكون مخلوقاً مبدعاً ومساهماً في تغير المفاهيم والقيم لما حوله، لأن ذلك يصبح خروجاً عن المجموعة وما تحمله من مفاهيم تراكمية أكل عليها الدهر وشرب.
«سغما فرويد» على سبيل المثال يجسد الاغتراب في الصراع بين العقل الواعي والعقل اللاوعي. هنا الاغتراب يصبح عن الذات الفردية، التي تتطور إلى الانفصام عن الذات الاجتماعية. لنعود إلى مرحلة الصعاليك، هي مرحلة امتازت بالحرية والشجاعة، كما جاء على كثير من تجلياتهم الشعرية التي بطبيعة الحال لا يمكن أن تخرج من شعراء يعيشون تحت خيرات القبيلة. مرحلة الصعاليك هي أول ثورة حقيقية للفرد للبحث عن الحرية الحقيقية!!
على أن المرحلة ألصقت بها التهم الصادرة أساساً من المكونات القبيلة التي تدير البلاد، أقصد تهم السرقة والتمرد والقتل وما شابه، ولكن هذا الأدب الحر هو الأدب المعارض والحقيقي للتركيبة الديموغرافية في ذلك الوقت. ربما نستطيع اعتبار الصعاليك أول ثورة حقيقية ضد النظام الاجتماعي السائد في الجزيرة العربية، الذي تسوده التقاليد العقيمة والفوارق الطبقية. في تصوري إبراز ما قاله بعض الشعراء في الدراسة قد يضيف أو يوضح الفرق بين مفهوم اغتراب الصعاليك، وما قام به النظام السياسي آنذاك من تشويه لهذه الحركة. بالعودة إلى بعض الأبيات للشنفرى وعروة بن الورد وغيرهما تصبح الفكرة مرئية بشكل جلي، لتوضيح ذلك التمرد وانعتاق الفرد من التبعية خاصة أن الشنفرى، وتأبط شراً لأُمَّيْن من أصول حبشية، أي من المتوقع معاملتهم معاملة أشبه بالعبيد.
الاغتراب أن تشعر بأنك خارج المفاهيم النفسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والقوانين المدنية. تشعر بأن عليك ثقلاً اجتماعياً بسبب المحيط من حولك، وأنك غير قادر على أن تواصل الانسجام مع المجتمع، مما يؤدي إلى العزلة المرضية في الواقع. من ناحية أخرى، قد يساعد مفهوم الاغتراب الفرد على الإبداع والتغير، ولكن قد يراه المجتمع على أنه منافٍ للقيم التي يقوم عليها. على سبيل المثال... المجتمع في مرحلة ما وقف ضد التعليم النظامي للمرأة، وضد خروجها إلى سوق العمل، وضد قيادتها للمركبة، وضد حرية السفر إلى الخارج، مع كثير من المفاهيم الأخرى التي كانت تفصل المرأة وتغربها خارج محيطها الاجتماعي وتلغي دورها الإيجابي وثمرة إنتاجها.. بالمقابل، أصبح الآن هناك نموذج أكثر وعياً قياساً بما مضى... ما يقارب بالتأكيد من النظرة الميثولوجيا التاريخية التي ترى المرأة على أنها جسد ذاته لا غير؛ أي تجريدها من ذاتها وإبقاء تلك الصورة التاريخية لحواء التي خُلِقَت لأجل المتعة والأُنس للرجل. هنا في تصوري يصبح الاغتراب الاجتماعي واضحاً بصورة بالغة.
الاغتراب الإيجابي والسلبي لا شك لامسته الورقة بالشكل المطلوب، في اعتقادي فإن تبلوُر مفهوم الاغتراب رافق الإنسان منذ زمن بعيد، وكان الفرد دائم البحث عن تعريف دقيق للاغتراب لكي يعيد الفرد إلى واقعه الاجتماعي للقيام بدوره الواعي دون انفصام عن الذات أو الانخراط في الإنتاج المادي، حيث يفقد جزءاً من ذاته الإنسانية، ويصبح يعي العالم من حوله، وله كامل الحرية في اتخاذ قراراته المنسجمة مع ذاته. بالطبع ذلك لا يتحقق من داخل الفرد فقط، تلك معطيات يقوم بها المجتمع. ولكن كيف يتأتى له ذلك والمجتمع تسيّره قوانين اقتصادية معقدة. هنا تحتاج إلى علاج يكون فيه الفرد قادراً على تقديم المقترحات دون خوف ليصبح جزءاً لا يتجزأ من منهج التغيير الاجتماعي.
في المرحلة الحالية، وتحت قراءة الورقة حول الاغتراب، يستطيع أي شخص أن يستنتج أن الاغتراب يمكن أن يكون إيجابياً عندما نحوّله إلى رفض للواقع الاجتماعي، ولكن بمعنى رصد الثغرات السلبية في الحركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بنا، وإضافة عنصر أو عناصر تطوّر تلك العلاقات نحو الأفضل. هذا مفهوم لا شك متقدّم للورقة والرؤية فيها، والورقة تشير أيضاً إلى أن هذا الإجراء ليس إجراءً تطوعياً أو نحو ذلك، بل هو إجراء ضروري وملحّ لتفادي ازدياد ظاهرة الاغتراب في مجتمعنا. لا يوجد مجتمع أفراده لا يعانون الاغتراب، لكن من الضروري أن نزرع في داخل النشأ حب الإبداع والتطوير والتغيير والمشاركة لتهذيب مفهوم الاغتراب.
النقطة الجوهرية التي تثيرها الورقة في تصوري بوضوح تام، أنه مع اختلاف مفاهيم الحرية الفردية ومفاهيم مثل الثورات والتحرر الوطني وما شابه من مفاهيم حديثة، فإننا في الواقع نستطيع أن نرى أنها تتجسد في مراحل كثيرة من تطور الإنسان وتكوينه النفسي والذاتي. الإنسان بطبيعته يحاول أن يوسع من مساحة الحرية الفردية لتحقق الاستقرار والحصول على الحقوق التي نطلق حالياً عليها الحقوق المدنية.
الورقة لم تتطرق إلى الأمراض النفسية والجسدية الناتجة عن الاغتراب وتبعاته، وأعتقد أن ذلك كان لسبب أن ذلك يتطلب بحثاً قائماً بذاته. من هنا الدعوة مفتوحة للباحثين الاجتماعين النظر بإسهاب في هذا المجال. الورقة راجعت باختصار التطور الاجتماعي النسبي، خاصة ما يخص بمنطقة الجزيرة العربية علماً بأن الموضوع قد يكون أكثر إثراء في مراجعة سريعة لما تعانيه باقي المجتمعات في هذا المجال.
المصدر : صحيفة الشرق الأوسط