من الشرق الأوسط إلى جنوب وشرق آسيا، أكد المثقفون الإصلاحيون الإسلاميون الحاجة إلى إعادة تفسير وتطبيق مبادئ ومُثل الإسلام في الزمن الحديث، ودعوا إلى صياغة ردود جديدة على تحديات الغرب وأسئلة الحياة الحديثة.
وفي شبه القارة الهندية كان العلّامة محمد إقبال -الذي ولد في سيالكوت إحدى مدن البنجاب الغربية في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 1877- رائد القرن العشرين في مشروع "الحداثة الإسلامية"، إذ كرس حياته للإصلاح الديني والتعليمي والاجتماعي وحتى السياسي، ودعا إلى "لاهوت" أو علم كلام جديد (علم التوحيد أو علم أصول الدين.. الذي يتناول الحِجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية)، وهي مساهمة جديدة وجريئة هدف منها إلى إعادة بناء الفكر الديني وتنشيط الأمة الإسلامية بعد خمسة قرون من السبات العقائدي نتيجة التقليد الأعمى.
شرح إقبال مواقفه الفكرية والفلسفية في "إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام" عام 1934م، وهو مجلد يستند لست محاضرات ألقيت في مدارس بشبه القارة الهندية خلال الأعوام 1928-1929، داعيا إلى الالتزام بمقاصد الشريعة، ومعتبرا أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- دعا لإلغاء الكهنوت والملكية الوراثية وشدد على دراسة التاريخ والطبيعة، بحسب الموسوعة البريطانية.
ودعا إقبال إلى الاجتهاد المعاصر، معتبرا أنه واجب على المجتمع المسلم في العصر الحالي، كما دعا لابتكار مؤسسات اجتماعية وسياسية جديدة، ونظرية للإجماع، وخلال الوقت الذي ألقى فيه هذه المحاضرات، بدأ إقبال العمل مع رابطة مسلمي عموم الهند أو العصبة الإسلامية في المؤتمر السنوي للرابطة عام 1930.
وفي أحد خطاباته ألقى إقبال بيانا شهيرا مفاده أن المسلمين في شمال غرب الهند يجب أن يطالبوا بدولة منفصلة، وهو الحلم الذي تحقق في دولة باكستان التي يحتفل مواطنوها بذكرى "الأب الروحي" لبلادهم كل عام.
ديناميكية واجتهاد
جمع إقبال بين الفكر الغربي والإسلامي، وبالنسبة للشاعر والفيلسوف الهندي المسلم كان الإسلام دينا ديناميكيا وخلاقا وقابلا للتكيف، وهذه الديناميكية هي التي فرضته قوة عالمية، ومع ذلك انتقد إقبال الجمود داعيا إلى الاجتهاد بفقه وحكمة تتناسبان مع دينامية الإسلام التي تعرضت للفساد والتحجر من العلماء الذين عزلوا خلف أسوار مدارسهم، بحسب تعبيره.
ورأى إقبال أن الفلسفة والعلوم الحديثة ليستا غريبتين على الإسلام، ولم تكونا مجرد نتاجات للغرب، ودعا إقبال لقبول واختيار الأفضل في الفكر الغربي والجمع بين الأفضل في الشرق والغرب من التراث الإسلامي والفلسفة الغربية لإنتاج توليفة خاصة وجديدة للعصر الحديث.
ومع ذلك كانت أعمال إقبال الفلسفية والنثرية قليلة جدا مقارنة بأشعاره ومنها أطروحته التي قدمها لجامعة ميونيخ بعنوان "تطور الميتافيزيقا في بلاد فارس"، وخطابه لاجتماع رابطة عموم مسلمي الهند عام 1930 التي ظهرت فيها شخصيته الفكرية والسياسية المهمومة بمستقبل المسلمين السياسي والثقافي في شبه القارة الهندية.
وله كذلك كتاب "إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام"، وهو عبارة عن مجموع سبع محاضرات ألقيت عام 1928 وتعكس منهجه الفلسفي والعقلاني ورؤيته الإسلامية الحديثة.
وشدد إقبال على كون القرآن يتماشى تماما مع الاكتشافات الرئيسة للعلوم الأوروبية الحديثة، ودعا لتفاعل بين الحداثتين الإسلامية والأوروبية والتعامل "الانتقائي" مع المفكرين الأوروبيين، ولم يغفل عن المكاسب الاقتصادية التي تفتحها الحداثة الغربية والعلوم والتكنولوجيا.
ثورة فكرية
وبحسب الأكاديمي والمؤلف الكندي ويلفريد سميث أحدث إقبال ثورة فكرية في العصر الحديث ودعا إلى إعادة تفسير التقاليد الإسلامية باعتبارها وسيلة لإنشاء مؤسسات اجتماعية وسياسية جديدة.
كان يعتقد أن تحديث الإسلام هو مفتاح التقدم الإسلامي وبهذه الطريقة، ساعد تفكيره في تشكيل الإسلام الحديث بالعالم الإسلامي الأوسع بحسب كتابه "الإسلام الحديث في الهند".
وينقل مؤرخ الفلسفة الإسلامية ماجد فخري في كتابه " تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ القرن الثامن حتى يومنا هذا" عن إقبال قوله إن الدين "لا يتعارض مع الفلسفة بل هو جوهر تلك التجربة؛ كما يتضح من تعاليم القرآن الكريم ودعوته للتفكير في الله، والخلق، ومتابعة المعرفة من أجل المثل العليا".
الاجتهاد والإجماع
ميز إقبال بين المبادئ الأبدية وغير القابلة للتغيير في الإسلام (الشريعة) وتلك التفسيرات التي كانت نتاج الاجتهاد البشري وبالتالي تكون عرضة للتغيير، وعلى عكس العلماء، الذين اتهمهم بإيقاف العملية الديناميكية التي أنتجت في الأصل الشريعة الإسلامية وبدلا من ذلك كانوا راضين لمجرد إدامة التقاليد الراسخة، اعتقد إقبال أنه يجب على المسلمين أن يؤكدوا من جديد حقهم في إعادة تفسير الإسلام وإعادة تطبيقه على الظروف الاجتماعية المتغيرة.
ونظر إقبال للإجماع بوصفه أهم مفهوم فقهي في الإسلام، ومع ذلك لم يتطور ولم يتخذ شكل مؤسسة دائمة في أي بلد إسلامي بحسب إقبال الذي قال إن ضغط القوى العالمية الجديدة وتجربة الأمم الأوروبية يفرضان على عقل الإسلام الحديث التفكير في إمكانيات فكرة الإجماع، ورأى إقبال ضرورة إعادة النظر في الاجتهاد الفردي داعيا إلى نقل المهمة إلى جمعية أو هيئة تشريعية تعبر عن الإجماع الرسمي للمجتمع في العصر الحديث.
ويعني ذلك أن توسيع نطاق وسلطة الإجماع هو طريق إقبال لتجاوز طرق الاجتهاد المسدودة، وسرعان ما تبنى مثقفون مسلمون آخرون فكرة إقبال.
إقبال مفكرا
كان إقبال على حظ وافر من علوم الإسلام النقلية والعقلية، وعلى دراية واسعة بتعاريج الفلسفة، وكان عميق الفهم لحركة التاريخ، وشديد الوعي بحقائقه وأحداثه، يلخّص تطور المجتمعات وأعمار الدول على هذا النحو: "تعال أنبئك بمصير الأمم وعاقبتها، سنان ورماح ثم لهو وغناء".
وقد اعتلجت في فكر إقبال وشعره تيارات عنيفة من التصوف الغامر، والفلسفة العاتية، والمعرفة الواسعة، فهو "مريد" مولانا جلال الدين الرومي، وهو تلميذ المدرستين الألمانيتين: المثالية العقلية، والوضعية الحسية، وهو ناقد سياسي عميق النظر، نافذ البصيرة.
فوق كل ذلك فهو شاعر مسلم نزاع إلى الحركية الإيجابية، وإلى البعث والإحياء، وإلى إعادة بناء التفكير الإسلامي، وفق منهج يتعانق فيه العقل والنقل ويصطحب فيه الرأي والشرع.
لقد عجمته النوائب ونجذته الخطوب وأحكمته التجارب، فما زاغ بصره ولا فكره. ولئن عرته شطحات تصوف صادمة، أو بدرت منه نزوات وجدان جامحة، فقد كان يرجع إلى دين وثيق.
وقد جمعت فلسفته بين حرارة الإيمان وصفاء التأمل العقلي الراشد، فجاءت الحقائق الفلسفية في شعره متلفعة بمُروط العواطف، متحررة من قيود الأرض، متطلعة إلى السماوات العلا.
وحينما يمعن النظر في مباهج الفلسفة الغربية ومفاتنها، فإنه ينعى عليها إيمان العقل وكفر القلب، ويعيب عليها عبادة الجسم وإهمال الروح والشغف بالعلم وهجران "العشق". يقول مخاطبا الغربيين، "إن حضارتكم سوف تقتل نفسها بخنجرها، إن العش لا يثبت على غصن ضعيف مضطرب".
أما في دراسته لتاريخ الفكر الإسلامي فقد لاحظ أن الفلسفة اليونانية كانت قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، وسّعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام، لكنها جنت عليهم جناية عظيمة حين غشت على أبصارهم في فهم القرآن.