حجرة أم السعد...
"وصعدت فوق السرير، واستندت بيدي على الحائط، حتى أصبحت الفجوة الصغيرة في مستوى نظري، ومن بين شقوق الخشب الذي أصابه العفن الذي تسبب في حدوث هذه الثغرة، تمكنت من رؤية الحجرة الأخرى، لكن اتساع الفجوة الذي يبلغ حجم كف اليد الواحدة وبسبب النقوش والزخارف، لم أتمكن من رؤية أرضية الحجرة جيدا... ومع ذلك نظرت وشاهدت الحجرة التي بدت لي وكأن الغيم يكسوها."( من رواية الجحيم لهنري باربوس، ترجمة فتحي العشري، ص:17).
بطل هنري باربوس بلا اسم، ولا طموح، ولا مواهب.. ورغم ذلك يشعر بأنه "بحاجة إلى تعويض"! يقضي معظم وقته في حجرة استأجرها في فندق، وينظر إلى "العالم" الحجرة الملاصقة، من خلال ثقب الباب لذلك يرى "بشكل أعمق"... إنه "رجل ثقب الباب" الذي عده كولون ولسون أحد نماذج "اللامنتمي"، في دراسته الشهيرة...
لا يجمع بين المراهقة أم السعد وبطل باربوس سوى مركزية "الحجرة" في حياتهما.. أم السعد موهوبة وطموحة، وتحمل اسما متفائلا، ولا تنتظر تعويضا من أحد. لكنها تنظر إلى وطنها من خلال ثقب الباب في حجرتها!!! إذا كان بطل باربوس قد اختار عدم الانتماء بوعي، فإن أم السعد تواقة إلى أن تنتمي إلى وطن تحسه في أعماقها، لكن حين طلب منها، لأول مرة، أن تترجم هذا الاحساس، أن تسقطه على رمز يختزل كل أبعاد الوطن الشاسع في جغرافيته، الغني بتنوعه، المنبت عن تاريخه.. لجأت الصغيرة إلى غرفتها كما تفعل في كل مرة تتعرض لتوبيخ، أو تعثر بدرجة غير متوقعة... هناك؛ بين أربعة جدران.. تساءلت في حيرة، "ما الذي يرمز إلى وطني؟" سمعت أصواتا، وتراءت لها أشباح فهرعت إلى ثقب الباب.. سمعت "سيدات القمر" يسخرن منها.. يقترحن عليها رموشا مزيفة، وخطا أحمر على الشفة السفلى، وكفنا باهظ الثمن... وترى "رجال في الشمس" يبادرون، يتاجرون، يغامرون.. يقفون على ثروات هائلة ويتسابقون إلى المنافي... رأت الوطن في الحجرة المقابلة.. " ألقيت بنفسي على السرير، وتوالت الأفكار على رأسي في لهفة عن المستقبل، وعن الحجرة... أي حجرة؟ ليست فقط الحجرة التي أقيم فيها، بل الحجرة المجاورة أيضا.. سأكون مع كل من يقطنها في كل لحظة ولكن دون علمه. سأرى من فيها، وسأسمعه، وسأشاركه حياته كما لو لم يكن بيننا فاصل،..."( الجحيم، 18).
تلكم هي حال أغلبنا مع الوطن؛ نعيش في الحجرة المجاورة له، وننظر إليه من ثقب الباب!!! كيف لأم السعد أن تجيب على سؤال لا ينتمي إلى فضائها الثقافي ولا "معنى" له في المنظومة العرفية التي نشأت فيها! لم تنتسب أم السعد إلى المنظمة الكشفية، ولم تشارك في أي عمل تطوعي.. لم تقف يوما لرفع العلم والترنم بالنشيد الوطني قبل دخول قاعة الدرس، ولا فكرة لديها عن تاريخ وطنها... أما "الرموز" فهي بالنسبة لها أعداد. حين سافرت، في رحلة التحدي، تزودت بأوراق ثبوتية تسمح لها بالعودة مباشرة إلى غرفتها دون المرور بالوطن.. وحين فوجئت بالسؤال "الرمز"، السؤال "اللغز" تشوش ذهنها مثل صبي يحاول أن يعرف كيف جاء إلى هذا العالم!! لا فكرة لديه.. سوى أنه كان في بطن أمه.. وأم السعد جاءت من حجرتها... ما الذي يرمز لوطننا؟ سؤال عجيب! ما هو وطننا قبل أ ن نبحث له عن رمز؟
لقد نجحنا، من بين جميع دول غرب إفريقيا التي نالت استقلالها عن فرنسا، في بناء وطن "منزوع الدسم".. كان سينغور ينظر للزنوجة، وموديبو كيتا يخرج من استلاب السودان الفرنسي إلى فضاء امبراطورية مالي الواسع والغني بتاريخه وحضارته.. بينما فرحنا نحن بخط (Trait) انتزع من الهندسة ليقحم في لغة غريبة علينا...
ربما أكد لها سياسي، حريص على الوحدة الوطنية، أن وطنها "همزة وصل" تكتب ولا تقرأ مثل واو عمرو.. وأخبرها "مؤرخو الأشراف" أن وطنها كان "بلادا سائبة" قبل "الفتح الفرنسي".. وربما حذرها آخرون، شفقة عليها، من طرح مثل هذه الأسئلة.. من الاقتراب من سؤال الهوية لأنه شمع أحمر "يزين" كل شفاهنا... وبذلك يعيدونها إلى حجرتها ويغلقون عليها باب الأسرة والقبيلة والجهة...
توقف بطل باربوس عن مراقبة الحجرة المجاورة.." انتهيت وتمددت على فراشي، وانقطعت عن النظر،..." فهل نهيئ لأم السعد، لأنفسنا، طريقة نخرج بها من "الكهف" لنرى وطن "الأباة" في ذهب الصحراء، وأمواج المحيط، وتاريخنا العريق، وثقافتنا المتميزة، ومستقبلنا الواعد؟ وهل نملك الشجاعة لنردد مع أحمد مطر..
من بعدنا يبقى التراب والعفن
نحن الوطن !
من بعدنا تبقى الدواب والدمن
نحن الوطن !
إن لم يكن بنا كريماً آمناً
ولم يكن محترماً
ولم يكن حُراً
فلا عشنا.. ولا عاش الوطن!
واجهت أم السعد بقوة وشجاعة، دون عون من أحد، تحدي القراءة، وأقصاها سؤال الوطن ورموزه، فهل يملك "مؤرخو نوفمبر" الشجاعة لمواجهة تحدي الكتابة؛ كتابة تاريخ وطننا، ليحصنوا الوطن من إقصاء سؤال الهوية إذا قرر نحاة بور روايال إعادة (Le trait) إلى الهندسة...