عرضنا، في مقالة سابقة، التعريف اللغوي للسيبة، وفي هذه المقالة سنحاول تبين مدى انطباق التصور الذي يلح عليه الكتاب الغربيون، مع واقع مغرب القرن التاسع عشر. ورد في موسوعة ويكيبيديا.. " بلاد السيبة مصطلح تاريخي مغربي يشير إلى الفضاء أو المجال الذي لم يكن مُؤمَّنا ولا توجد فيه أجهزة مخزنية للسلطان، وامتنعت قبائل بلاد السيبة عن دفع الضرائب، وكانت هذه البلاد تعترف فقط بالمكانة الروحية للسلطان،..." تظهر في هذا التعريف الاصطلاحي ثلاثة عوامل تحدد بلاد السيبة؛ غياب التأمين، وأجهزة المخزن، والامتناع عن دفع الضرائب. يتعلق الأمر إذن بالعلاقة مع السلطة المركزية المتمثلة في المخزن؛ فبلاد السيبة بهذا المعنى هي المناطق الطامحة إلى شكل من أشكال النظام الفدرالي الذي تعترف فيه قبائل أطراف المملكة بالسلطة المركزية مع رغبة في تسيير شؤونها المحلية بعيدا عن تدخل المخزن المباشر. يدل على ذلك أن "بلاد السيبة" كانت قادرة على تعويض الوظائف التي ينهض بها المخزن، وعلى رأسها وظيفة الأمن.. " واستفحلت "السيبة" في مغرب القرن التاسع عشر ميلادي، وظهرت وظيفة «الزطاط» وهو الذي يعبر بالناس طرق بلاد السيبة،.." (ويكيبيديا).
لم تكن بلاد السيبة مستقرة جغرافيا، وإنما كانت تتسع وتتقلص تبعا لعلاقات القبائل مع المخزن التي تحكمها حالة قوة المخزن وضعفه، واستقرار أحواله واضطرابها؛ ففي الفترات الانتقالية بين موت سلطان وجلوس آخر قد تنتهز بعض القبائل الفرصة للتمتع ببعض الاستقلالية حتى تستتب الأمور للعاهل الجديد.. "فبمجرد أن يموت السلطان، وتستفحل الأزمة بين المتنافسين على الخلافة، تنزع القبائل القوية إلى قوانينها الخاصة... مثلما حدث في أعقاب موت السلطان عبد الرحمان، حيث اندلعت سيبة دامت خمس سنوات،..." (ويكيبيديا) لكن السيبة ما تلبث تتلاشى لتعود القبائل إلى حضن المخزن الدافئ... "جميع الصراعات التي خاضتها قبائل زمور مع المخزن كانت تبتدئ بمقاومة عنيفة وتنتهي بطلب الشفاعة."(ينظر: بولحيه، يحي:م.س.). لم يكن المخزن بعيدا عن ظاهرة السيبة، بل ربما ساهم فيها خدمة لأغراضه.. "كان المخزن، عبر عيونه وجواسيسه، يدرك تفاصيل الخلافات والصراعات بين القبائل، فكان يتراخى أحيانا في التدخل لحلها، بغية إيجاد حالة من الفوضى التي تستدعي تدخله ووساطته، والاعتراف بدوره السياسي والرمزي." (بولحية). مما تقدم يتضح لنا أن السيبة "حالة مخزنية" بمعنى أنها آلية من آليات المخزن التي يدير بها علاقاته مع القبائل المنتجعة على تخوم المملكة. ومن ثم لم يكن هناك انفصال بين بلاد المخزن وبلاد السيبة، وإنما كانت بلاد السيبة امتدادا لبلاد المخزن حيث يدار الشأن اليومي وفق التقاليد المحلية بمباركة من المخزن وضمن بيعة السلطان.. "لم يكن المخزن موجودا وراء كل حجر وشجر، ولم تكن سلطته مطلقة استبدادية، في صورتها الأوربية خلال العصور الوسطى، لاعتبارات مجالية جغرافية، وبسبب تركيبة المجتمع المغربي الاثنية المتنوعة التي احتاجت إلى سلطة تحكيمية محايدة وإلى إطار مرجعي سياسي قائم على منطق البيعة والموالاة بالمعروف."(بولحية)
هذا الشكل من التعايش بين السلطة المركزية، والتقاليد القبلية سينظر إليه الرحالة والمستكشفون الفرنسيون، الذين اجتاحوا المغرب مقدمة لاستعماره، من خلال ثنائيات تلح على الانفصال، بل الصراع العنيف أحيانا بين بلاد المخزن وبلاد السيبة. وهكذا، سيرسم المستعمر للمغرب صورة قاتمة تبرر وضعه تحت الوصاية. فلم يكن المغرب دولة، في نظر الجنرال ليوتي، "وإنما عبارة عن غبار بشري، سديم، فسيفساء من القبائل المستقلة والمتناحرة."(مزيان، محمد: المغرب في الأدبيات الكولونيالية الفرنسية ومشروعية الغزو والالحاق، مجلة عُمران). سيتم ترويج هذا التصور من خلال أبحاث "علمية" تؤول ظاهرة السيبة لتصبح تمردا دائما ضد السلطة المركزية. فروبير مونتاني (1893-1954) يرى أن "نفوذ الجهاز المخزني اقتصر على ما يسمى بلاد المخزن، بينما ظل القسم الكبير خارج نفوذه، تتصرف فيه قبائل السيبة."(ذكره، بولحية). ويذهب مولييراس (1855- 1931)، في تقليص مجال سيطرة المخزن، في نفس الاتجاه حين يقول.. "تتمتع جل المحافظات بالاستقلال، ولا تعترف سوى بالسلطة الروحية لسلطان فاس... وتمثل بلاد السيبة أربعة أخماس مساحة المغرب، ويقتصر الخمس المتبقي على بلاد المخزن."(بولحية).
لم تعد ظاهرة السيبة، حين تناولتها أقلام منظري الاستعمار، حالة اجتماعية سياسية تعبر عن علاقة التجاذب بين مركز السلطة وأطرافها، وإنما غدت أداة تستخدم تبريرا لوضع السلطنة تحت الوصاية الأجنبية. فقد أصبحت السيبة مرادفا للتمرد والفوضى "السائدة" في السلطنة، ولم يعد المخزن الذي لا تتجاوز سيطرته خمس أراضي السلطنة! قادرا على قمع التمرد والقضاء على الفوضى.. " من خلال نعتيْ "بلاد المخزن" و"بلاد السيبة"، تتشكل صورة نظام ممزق بين اتجاهين متناقضين، يميل الأول نحو نظام مركزي، ويميل الآخر نحو الفوضى، وتكتسب الصورة اعترافا أكثر فأكثر من لدن الباحثين، ولا يستطيع أي من النظامين أن يحقق الغلبة."(مزيان، محمد).
بعد استقلال المغرب عمد الباحثون المغاربة إلى "تخليص تاريخ المغرب من أوحال النظرة الاستعمارية والاسقاطات المجانية والأحكام القيمية التي جاءت بها المنظومة الكولونيالية الفرنسية؛..."(مزيان، محمد)، فطفقوا يراجعون ثنائية "المخزن/السيبة" ضمن توجه وطني لإعادة كتابة التاريخ محررا من توظيف الأقلام الاستعمارية للظواهر الاجتماعية والمؤسسات السياسية لتبرير الاحتلال والالحاق. "حاولت الكتابات الوطنية تأكيد وجود دولة مغربية، معتمدة في ذلك على الوثيقة التاريخية، وما تحمله هذه الأخيرة من مضامين سياسية وإدارية،..."(بولحية؛ مثل هذا الاتجاه محمد الحبابي، جرمان عياش، محمد عابد الجابري، أحمد التوفيق، عبد الله العروي...).
تتجه أبحاث هذا التيار الوطني إلى نفي الأطروحة الاستعمارية وتوظيفها لثنائية "المخزن/السيبة".. " أما بعد الاستقلال فكثير من الباحثين المغاربة ذهبوا إلى إنكار هذه الثنائية جملة وتفصيلا، بمعنى أن المغرب لم يعرف في تاريخه السيبة."(أبرزاق، البشير: في مفهوم المخزن...). وكادوا يجمعون على أن السيبة لا تحيل إلى الفوضى؛ فجرمان عياش يرى السيبة انتفاضة لعب التدخل الأجنبي دورا كبيرا في تأجيجها. بينما ذهب العروي إلى عد " السيبة مفهوما مخزنيا أصيلا يرتبط بأعراف المناطق القبلية." أما أحمد التوفيق " فقد تبنى المقولة الخلدونية التي تؤكد انحدار نفوذ الدولة كلما ابتعدنا عن المراكز،..."(أبرزاق).
ذلكم هو واقع السيبة وتصورها في الكتابات الاستعمارية، والدراسات المغربية الوطنية.. فكيف حدد كتابنا الأقدمون مفهوم السيبة، وكيف وظفه المعاصرون في ظل دولة الاستقلال؟