كلمة الوزير و السفير السابق المحجوب ولد بيه عن كتابه : موريتانيا ..جذور و جسور

ثلاثاء, 13/06/2017 - 00:09

كلمة الدكتور محمد المحجوبولد بيه

في حفل تقديم كتابه

"موريتانيا: جذور وجسور."

المنظم من الرابطة الوطنية لتخليد بطولات المقاومة

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة  والسلام على أشرف المرسلين

 

أيها الإخوة والأخوات

يسرني الالتقاء بكم في ليلة ثقافية من ليالي رمضان المبارك راجيا من الله أن يعيده علينا وعلى بلادنا وأمتنا العربية والإسلامية باليمن والإيمان والسلامة والإسلام.

 

أقدم جزيل الشكر وكامل الامتنان للطاقم الذى نظم هذا اللقاء وفى مقدمته  رئيس الرابطة الوطنية لتخليد بطولات المقاومة.الأستاذ سعد بوه ولد محمد المصطفى المتفاني في خدمة القضايا الوطنية وخاصة قضية البحث في تاريخ المقاومة وإحيائه وتثمينه ودمجه في حياتنا الوطنية الاجتماعية والثقافية والسياسية.

 

كما أغتنم الفرصة لأقدم لأخي سلامي ولد احمد مكي مدير مطبعة ومكتبة القرنين 15/21 جزيل الشكر والامتنان على الجهد الذي بذله في سبيل نشر كتبي التي بين أيديكم.

 

أيها الأفاضل أيتها الفاضلات

يقول المؤرخ الفيلسوف الفرنسي  جوزيف هورس[1]  إن غرض المؤرخ الأسمى هو تقوية سلاح معاصريه وهم يخوضون معركة بناء المستقبل. ولأن هذا هو ما أؤمن به فإن اهتمامي بالتاريخ يدخل في دائرة التاريخ الملتزم  وأقصد: التاريخ من أجل المستقبل.

وأقصد بهذا المفوم التأريخ الذى يقدم لمتعاطيه أسسا سليمة للتعامل مع قضايا الإنسان ومشكلات المجتمع .إذ بمنظور التاريخ والبحث العلمي الرصين، يُتوصل للحلول المثلى لكل ما يعرض من كبريات الأمور وينزل من عويصات القضايا النظرية والعملية.

وبناء على هذا التصور، حاولت منذ كتاباتي الأولى في سبعينيات القرن المنصرم البحث في ما رأيته منذ ذلك الوقت رافداَ حياَ،ضمن روافد أخرى، لهويتنا الوطنيةالموريتانية وهو البحث في مقاومة الموريتانيين للمستعمر بالسلاح والثقافة أي بالقوة الصلبة من جهة وبأشكال القوة الأخرى الثقافية والاجتماعية أي القوة الناعمة Soft power  كما يسميها المفكر الأمريكيجوزيف ناي[2]..

إن هذا الكتاب الذي تحتفون به اليوم إذن يندرج في سياق محاولة المساهمة في تشكيل الهوية الموريتانية بالبحث في ما يقويها ويشد بعضها إلى بعض. إنه يحاول عقد جسور بين الحاضر والماضي بغية تسخير الماضي للحاضر والمستقبل دون ذاتية مفرطة تتجنى على الوقائع بل باستلهام القيم الناظمة لتاريخ شعبنا وإبراز  قوته وازدهاره في فترات من تاريخه ومحاولة فهم عوامل ضعفه في فترات أخرىوذلك لدفع مسيرته التاريخية العامة إلى الأمام. 

 وغرضي  الأسمى هو المساهمة في تقوية سلاح الأجيال الصاعدة في معركتها من أجل بناء موريتانيا، موريتانيا التي أتصورها كشجرة أغصانها وارفة ترفرف في السماء وجذورها متشابكة ضاربة في أعماق الأرض تغذي تلك الأغصان والأوراق فتعطي ثمار الخير والنمو والسلم والإزدهار.  

وفي هذا السياق الذهني، سميت هذا الكتاب "موريتانيا: جذور وجسور (البشر، الدول، مقاومة الاستعمار)" لأرز ما يجمع شعبنا، من جذور مشتركة ضاربة في القدم، هي جذور شعب واحد في تنوعه متنوع في وحدته.

وأرجو أن يسهم هذا الكتاب في تقوية ما ضعف من جسور التواصل التي انعقدت على مر الزمن بين أطياف الشعب الموريتاني التي عاشت تحت خيمة الوطن الواحدة وفى أخصاصه تتفاعل ويثرى بعضها بعضا، وتقف سدا منيعا أمام ما يهدد وطنها ودينها ووجودها.

أيها الإخوة والأخوات،

أنا من جيل تنبهمبكرا لأخطار القبلية والجهوية والإثنية على وجود الدولة الموريتانية ووحدة المجتمع الموريتاني ولذا ناضل هذا الجيل ضد تلك الانتماءات، لتأخذ الدولة مكانتها وليكون الانتماء للوطن بدون منازع.

 كما ناضل من أجل بناء الهوية الوطنية وترسيخها  بترسيم اللغات الوطنية والعمل بها وبتحرير الاقتصاد وبالاعتماد على النفس في الدفاع عن  بلادنا. 

وكان لسان حال ذلك الجيل  الوطني  بجميع مشاربه الفكرية يكرر:

نحنَ ندعُ لُمُور كْبارْ
حريتـنَ مَن لَستِعمارْ
زُنوج اعْربْ واحدْوَ حْرارْ
وَ نْحَقُّ فِيهَ لَزْدِهَاْر
                       

 

ماهَمْ مَنَّ كثـرتْ لَخْبارْ
وَ هْلُ وِقامتْ دَولَتْـنَ
نَبْـنُ بَيْدِينَ بَلْدَتْنَ
أَراَعِ هاَذِ فَكْرَتْنَ
 

 

وكنا نستلهم نضالنا الوطني الوحدوي من التراث الإنساني ومن تراثنا العربي الإسلامي بالذات، لأن التصوّر الإسلامي الأصيل لا يضيق ذرعا بالاختلاف ولا بالتنوع بل يقبلهما كسنة كونية تنتظم جميع المخلوقات، لا تؤدي إلى الصراع المحتوم - كما يروج دعاة الفتنة المُغْرضون-  بل تفتح الباب واسعا أمام الحوار الذي هو خير وسيلة للتكامل والتسامح والوئام.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم حين جعل من مقاصد خلق الله للبشر مختلفين شعوبا وقبائل أنْ يتعارفوا، بكلِّ ما توحي به كلمة التعارف من معاني الألفةوالتواد والتبادل السلمي والتثاقف. ولا شك أن التعارف غيرُالتعارضوهو غيرُالتعاركوالتنابذِ والتنابزِ.

كما كنا وما نزال نرى في هذا التراثدرراً من الحكم تزيد المرء تعلقا بوطنه وأبناء وطنه. هذا الأحنف بن قيس رئيس تميم وحكيمها لما اشتد الخلاف بين أبناء مدينته البصرة قال بعد حمد الله والثناء عليه: يا معشر الأزد وربيعة، أنتم! إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو.

والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام.....فجعل الانتماء للوطن "الدار" قبل الانتماء للقبيلة.

وقد ظننالوهلة أن تلك الأخطار القبلية والجهوية والأثنية التي واجهت بلادنا خلال أعوام الاستقلال الأولى قد ولت وإلى الأبد ولكن التاريخ والاجتماع لا يعرفان الركود فإما التقدم أو التأخر.

وما يؤسف له أن تلك الأخطار لم تزُل بل ظهرت معها أخرى أكثرُ تدميرا كالفئوية البشعة والطعن في كل الثوابت التي تعارف أهل هذه البلاد عليها والتشكيك في الهوية الوطنية وفي الدولة.ولعل  الأخطر من ذلك كله أن أصبح  بث هذه السموم جزءا من المشهد في البلاد.

وفى اعتقادي أن مما هيأ لنشوء مثل هذه الجرأة على التشكيك في هويتنا  وفي دولتنا ضعف الوازع الوطني عند البعض، لأسباب أرى أن أهمها غياب الدرس التاريخي الوطني من المنهاج المحظري التقليدي الذى شكل الوعي الديني والخطاب الحضاري لهذه البلاد.

ولئن كان الشيخ محمد المامي ولد البخاري رحمه الله قد انتقد الفوضى السياسية فإن الشيخ باب ولد الشيخ سيديا رحمه الله لاحظ عدم اهتمام العلماء بالتاريخ وعجب كيف أن علماء  البلاد وأدباءها "على فضلهم ونبلهم ... لم يعتنوا بتاريخها في كتاب معتبر من أول الزمان مع كثرة ما وقع فيها من الأمور الكبار التي ينبغي الاعتناء بكتابتها"[3] كم قال.

إن المؤرخ الموريتاني، ما قبل موسوعة والدنا وأستاذنا المختار ولد حامدون رحمه الله وما تلاها من كتابات باحثينوطنيين وأساتذة في الجامعات والمدارس العليا، انشغلبدراسة أنساب القبائل والأسر والتعريف ببعض الأعلام،عن دراسة الدول والتنظيمات السياسية التي عرفتها البلاد وعن دراسة القوميات المكونة للمجتمع الموريتاني وعلاقاتها ببعضها.

ومن وُفِّقَ لطرق هذه الموضوعات المركزية، كثيرا ما أغفل البعد الوطني فيها ولم يول عناية تذكر للبحث في ما يثبت وجود المجتمع ككيان قائم بذاته ولم يهتم بمسيرته العامة على غرارما شغل به المؤرخون والاجتماعيون في جميع الشعوب المتحضرة مهما تعددت جذورها.

وإنما يحضر هذا الاهتمام أو يغيب تبعا لدرجة الوعي بأن الدرس التاريخي الرصين منأهم ركائز وحدة الدول و من أثرى الروافد المغذية لهويتها وروحها الوطنية.

والهوية إن تركت دون تعهد أو أهمل تعزيزهاضعفت وربما تحطمت فهي بناء يحتاج تجديداً وترميماًدائمين.وهي انتماء تُنشَّأُ عليه الأجيال في المدارس ويبثبكل وسائل التوعية والتثقيف من إرشاد وأدب وفن دون كلل أو ملل، وإلا ذبل ومات.

 وكما خلا المنهج المحظري من الدرس التاريخي الوطني لم تدخله الدولة المستقلة المعاصرة إلى المدارس إلا بعد فترة طويلة. وهو ما يزال يحتاج جهدا كبيراً لرفع مستواه وقيمته معا.

ومعرفة التاريخ الوطني ضرورة للمربي، واجبة على كل مسؤول فهي التي تساعد على فهم الواقع وتحليله ونقده وتمكن من التعامل مع المجتمع والدولة.

والدرس التاريخي الوطني ركيزة لا غنى عنها لبناء أجيال تعرف وطنها وتقدره وتتمسك به وتكون مستعدة للدفاع عنه.

وإن من واجب أجيالنا الصاعدة أن تعي تاريخ وطنها فهو نسبها الحقيقي وهو نسبها الموحد وهو نسبها الذي لا ينظر إلى عرق ولا جهة ولا قبيلة ولا فئة.

ويمكن تحقيق ذلك إذا بذلت الدولة الجهود اللازمة في المدارس والجامعات لمكافحة شتى صور التعصب منالعرقية والشعوبية والفئوية، وإذا عملت البرامج الدراسية على تقويض الأوهام السائدة في مجال الهوية لأن النقاء العرقي وهم.

 

أيها السادة والسيدات يتكون كتاب جذور وجسور من:

الجزء1:مقدمات نظريةاقتصرنا فيها على تعريف التاريخ وتبيان أهميته ومصادره كما أشرنا  إلى خطوات البحث التاريخي.

 

الجزء 2: موريتانيا: الأرض والتاريخ: تناولنا فيه الإطار الجغرافي للبلاد الموريتانية فتكلمنا عن طبيعتها والمراكز الحضرية القديمة فيها. كما تناولنا مسيرة تشكل الشعب الموريتاني من شعوب متعددة امتزجت عبر التاريخ وكونت دولا امتدت من إمبراطوريةغانة التي ظهرت قبل الإسلام وحتى دولة الأئمة في ق 19 مرورا بدخول الإسلام وبدول المرابطين ومالي والسونغاي والآسكيا والتكرور والإمارات الموريتانية الحديثة وانتهاءً بالجمهورية الإسلامية الموريتانية.

 

الجزء3: أوروبا على الشواطئ الموريتانية، نهاية عهد وبداية عهد: تناولنا الظاهرة الاستعمارية كظاهرة تاريخية مرتبطة بالتطورات الاقتصادية والسياسية والفكرية التي عرفتها أوروبا مع عصر النهضة ثم تناولنا امتداد هذه الظاهرة إلى الشواطئ الموريتانية ثم إلى البرًّ الموريتاني حتى استعمارِ البلاد أوائل ق 20.

الجزء4: احتلال موريتانيا: كان استعمار البلاد حدثا غير مسبوق قلب الموازين وطبع ما بعده. وقد جرى هذا الاستعمار على مراحل وواجهته مقاومة مسلحة قل نظيرها واستمرت ثلاثة عقود.

الجزء5: الاحتلال والمقاومة المدنية: لقي الاستعمار مقاومة اجتماعية وثقافية حافظ بها الموريتانيون على هويتهم الإسلامية العربية الأفريقية، كانت المحاظر قطب رحاها وطليعة قادتها.

وقد أتبعنا هذه الأجزاء بخاتمة ثم بملاحق مكملة وموضحة لمضامين الكتاب.

وأرجو أن يكون هذا العمل مساهمة في التعريف بوطننا وفي بث الاعتزاز به والتوعية بتاريخه المشترك ومستقبل أبنائه الواحد الواعد.

 

حفظكم الله وحفظ موريتانيا وأهلها والسلام عليكم.

للإطلاع على السيرة الذاتية للمحجوب ولد بيه اضغط على الملحق هنا

 

[1] (1896-1963) Joseph Hours فيلسوف فرنسي قاوم الاحتلال النازي لفرنسا، له كتب أشهرها كتابه: قيمة التاريخ.

[2]صاغ جوزيف ناي هذا المصطلح في كتابله عام 1990 وقدر صدرت ترجمة عربية له بعنوان:القوة الناعمة،ترجمه محمد توفيق البجيرمي ونشرته دار العبيكانسنة 2007م.

[3]باب ولد الشيخ سيديا، إمارتا ادوعيش ومشظوف، تحقيق إزيد بيه ولد محمد محمود، الطبعة الثانية، 1415/1994، المعهد التربوي الوطني – شركة الكتب الإسلامية، ص 90.

تصفح أيضا...