محمد المختار سيدي هيبة: محلل اجتماعي سياسي ، باحث مهتم بقضايا الشرق الأوسط و إفريقيا. نشرت له أعمال في Palestine Chronicle, Al-Ahram Weekly, Third World Network, The Turkish Weekly and Middle East Eye ...
تصدرت موريتانيا عناوين الأخبار العالمية في السنوات الأخيرة ليس بسبب تعاقب الانقلابات العسكرية فيها ولكن بسبب قضية العبودية. حيث في عام 2012 وصف وثائقي نشرته قناة سي إن إن موريتانيا بـ " آخر قلاع العبودية " هذا الوثائقي الذي استند إلى زيارة مدتها 3 أيام قام بها جون سوتر لموريتانيا و قدرنسبة للعبيد في موريتانيا تتراوح بين 10- 20 في المائة من مجموع السكان. بعد القيادة لساعات في " الفراغ" كما اسماه دون ان يرى أحدا ، توصل السيد سوتر إلى ان البلد يستعبد ما بين 340000 و 680000 من اصل مجموع سكانه البالغ 3.5 مليون نسمة .
هناك تقرير آخر يقول إن العبودية ما تزال تُمارس بشكل سري في موريتانيا ويقدم أحدث مقال لـ جون سوتر تقديرا جديدا لنسبة الموريتانيين المستعبدين: من أربعة إلى 20 في المائة. وليس من الواضح لماذا أصبح الرقم الأدنى الآن أربعة في المئة بدلا من 10 في المئة.
ظهرت مؤخرا مادتان عن الرق في موريتانيا في مجلة Middle East Eye . تحدث أحد المقالين عن 000 150 أفريقي استعبدتهم الأقلية العربية و ربط المؤلف مايكل فيليبس في هذا المقال بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والقضية الموريتانية. وادعى أن الحراطين محرومون من الوصول إلى المدارس، وهو أمر غير دقيق.
يتمتع أفراد مجتمع الحراطين بفرص مساوية لغيرهم في الحصول على التعليم الشامل وعلى خدمات الدولة الأخرى ، ولكن قدرتهم على الاستفادة من هذه الخدمات ظلت محدودة نتيجة لعوائق مختلفة تفاقمت بسبب تفشي الفساد والمحسوبية.
أشاد فيليبس بالمرشح الرئاسي السابق والناشط المناهض للرق، بيرام الداه عبيد ، ووصفه بأنه مانديلا العصر الحديث. وسلط الضوء على أعمال عبيد البطولية ضد الرق، بما في ذلك حرق (ما اسماه فيليبس) الكتب المؤيدة للرق المستندة على فقه الإمام مالك بن أنس .
وإلى جانب هذه الأخطاء الواقعية، تستحق مسألة الرق الموريتاني طرح الأسئلة التالية : هل يوجد في هذا البلد الواقع في غرب أفريقيا البالغ عدد سكانه 3.5 مليون نسمة عدد كبير من العبيد؟ ماذا تعني العبودية حقا في السياق الموريتاني؟ ما هو نوع الإطار القانوني القائم لحماية الناس من آفة الاستغلال البشري والعمل القسري؟
وينبغي لنا أن نوضح في البداية أن نيتنا ليست إنكار المعاناة الحقيقية لمجتمع ما ولا تلميع ارث تاريخي مرهق. بل ان هدفنا يقتصر على توضيح ظاهرة اجتماعية معقدة، من خلال رسم صورة أكثر دقة من الصور التي رسمتها الصحافة .
نأمل أن نوضح أن الأرقام التي نشرتها المنظمات الدولية حول الرق في موريتانيا ليست مبالغ فيها فحسب، بل تفتقر إلى مصادر إحصائية حقيقية. إن عدم وجود بيانات متينة لم يمنع هذه المنظمات من تقديم ادعاءات غير مؤسسة كما يظهر في مثال مؤشر الرق العالمي (الذي نناقشه لاحقا في هذا المقال). وعلى الرغم من عدم وجود بيانات موثوقة، فإن معرفتنا الراسخة بالتقلبات القانونية والاجتماعية في موريتانيا منذ الاستقلال تقودنا إلى الاعتقاد بأن أعداد العبيد أقل بكثير من الأرقام المتداولة حاليا.
ومع ذلك، نعتقد أنه بغض النظر عن صغر حجم جيوب الرق القائمة، يجب اتخاذ تدابير حقيقية لمعالجة هذه المسألة. وسيساعد إيجاد برامج للتنمية المستدامة على استنزاف هذه الجيوب من خلال تحسين حياة الشريحة الأكبر حجما والمحررة من الحراطين ، و العمل على تحرير البقية نظرا لعدم وجود عقبات قانونية أو إدارية تحول دون ذلك.
السياق الموريتاني
موريتانيا بلد شاسع المساحة ذو كثافة سكانية قليلة ولكنها متنوعة عرقيا وثقافيا. يقع البلد عند مفترق طرق جغرافي رئيس يفصل بين منطقتين متميزتين: المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء. تاريخيا، كانت البلاد أيضا طريق للتجارة القديمة، وبالتالي شكلت ملتقى لمجموعة متنوعة من التأثيرات ولا يزال البلد الحديث يحمل سماتها الثابتة.
من السمات الرئيسية لموريتانيا طبقية اجتماعية قديمة تعود للجذور الأفريقية الراسخة بعمق. ويكمن جوهر هذا النظام في ممارسة الرق، التي ما زالت آثارها الباقية تؤجج الخلافات في الداخل وتحظى باهتمام غير مرغوب فيه من الخارج.
بالرغم من انهيار مؤسسة الرق التاريخية في موريتانيا، الا أن آثارها المتبقية لا تزال تزعج البلاد وتجعل العبيد السابقين - الحراطين - في وضع هامشي. وعلى الرغم من أن هذه المشكلة الحقيقية جدا لا تحظى باهتمام أقل مما تستحقه، فإن الصحافة الدولية ومنظمات حقوق الإنسان لا تزال تثير جدلا حول مسألة الرق باستخدام القوالب النمطية القديمة والطرق الإحصائية غير المطابقة للمواصفات.
كان يقال إن الفرنسيين يقاتلون دائما الحرب الأخيرة. وعلى نحو مماثل، تتصدى المنظمات الدولية لمشكلة العبودية الرسمية التي في معظمها لم تعد موجودة، مع تجاهل إرث الرق ومحنة العبيد السابقين. ومما يزيد من سوء فهم المشكلة نقص عام في فهم الهيكل الاجتماعي الموريتاني وطبيعة مؤسسة الرق في المجتمع البدوي التقليدي في موريتانيا.
مفهوم العبودية
من الناحية التاريخية، فإن الاستعباد في هذا السياق ليس هو نفس النوع من الاستغلال البشري (الذي ينطوي على التعذيب والفصل المنهجيين) على غرار ما حدث سابقا في ألاباما وجورجيا والمسيسيبي، أو حتى في الجزر الكاريبية. ففي حالة موريتانيا، كان الاسترقاق شكلا معينا من أشكال الإقراض الريفي في نمط حياة زراعي - رعوي، يتميز بالطبقات الاجتماعية وتقسيم العمل. احتفظ كل من ملاك الأراضي ومالكي المواشي بأشخاص تابعين من أجل العمل أو حراثة الأرض أو الاهتمام بالقطعان مقابل الحصول على الإعاشة. وكان العبيد قطاعا فريدا من نظام الاعتماد المتبادل؛ لأن اعتمادهم دائم و وراثي، ما لم يتم مقايضته أو بيعه.
على الرغم من وضعهم الهامشي، عاش العبيد وسافروا مع أسيادهم وغالبا ما شاركوهم في نفس المساكن. وقد استمر هذا النظام لعدة قرون، ولكن في العقود الخمسة الماضية، كان في انخفاض حاد. وعلى الرغم من استمرار التجمعات الاجتماعية والقوالب النمطية الثقافية، فإن ترجمتها إلى استغلال أصبحت هامشية على مر السنين بسبب التحولات الاجتماعية و المدنية السريعة التي مرت بها البلاد. موريتانيا، حيث كان 95٪ من السكان بدوا رحلا عشية الاستقلال في عام 1960.واليوم، يشكل البدو أقل من خمسة في المائة من السكان.
وفي معسكرات هؤلاء البدو الرحل القليلة والقرى الصغيرة الواقعة على أطراف الحياة الحضرية قد تستمر آثار الرق، لكن نظرا لعدم وجود إحصاءات يمكن الاعتماد عليها، يصعب تحديد أعدادهم. ومع ذلك، ونظرا للتحول الاجتماعي السريع في البلاد في العقود الماضية، نعتقد أن تقديرات أكثر واقعية لعدد العبيد الباقين في موريتانيا لا تتجاوزعدة آلاف.
القانون و العبودية
كان انهيار الرق والتحولات الاجتماعية التي رافقته نتيجة تدخلات قانونية من الدولة في في بعض الأحيان.فمن الناحية القانونية، تم حظر هذه الممارسة في عدة مناسبات. على سبيل المثال، صداقت موريتانيا في عام 1961 على اتفاقية مكافحة العمل الجبري (رقم 29، 1930)، بعد أن كرستها بالفعل، وإن كان ضمنا، في دستورها لعام 1959. وقد أصدر المجلس العسكري للرئيس هيدالة في عام 1981 مرسوما أكثر صراحة بشأن إلغاء عقوبة الإعدام (رقم 81-234)، إلى جانب الإصلاح الزراعي. وقد برر هذا المرسوم بأسباب قانونية إسلامية كما حظي بتأييد المؤسسة الدينية. وصدر قانون آخر (رقم 025/2003) في عام 2003، ينص على عقوبات لجرائم الاستغلال البشري. وعززت هذه القوانين في عام 2007 بتدابير قانونية أكثر صرامة، تجرم جميع أشكال العمل القسري. وفي نيسان / أبريل 2015، رفع قانون جديد العقوبة، في بعض الحالات، إلى السجن لمدة تتراوح بين خمس وعشر سنوات، وشمل سمات جديدة تجعل القانون الموريتاني متسقا تماما والاتفاقيات الدولية
وعلى الرغم من هذه الترسانة القانونية، ظل العنصر المفقود هو عدم وجود آليات قوية للتنفيذ والرصد. ونتيجة لذلك، كان أثر هذه السياسات التقدمية متواضعا في معظمه.
وعلى الرغم من حصولهم على الحرية عمليا، فإن أحفاد العبيد السابقين (الحراطين) ما زالوا يعيشون في ظروف اجتماعية اقتصادية صعبة، ويشكلون نصيب الأسد من سكان الأحياء الفقيرة وأغلبية العاطلين عن العمل.
علاقة العبودية و العِرق
إن مما يزيد من تعقيد مسألة الرق هو الطابع العنصري المتصور للعلاقة بين العبيد والأسياد في المجتمع الموريتاني. هذا التصور بالتحديد هو السبب في كون الممارسة المماثلة للعبودية داخل المجتمع الأفريقي الموريتاني يتم اغفالها في الغالب كمجال للبحوث وكمجال لتدخل الدولة على حد سواء وذلك لكون كل من العبيد وسادتهم يشتركون في لون البشرة،.
وقد ساهمت الاضطرابات السياسية التي أدت في أواخر الثمانينيات إلى إعدام ضباط موريتانيين من أصل أفريقي خارج نطاق القضاء وطرد جماعي للمدنيين في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، إلى تصور وجود علاقة بين الرق والعرق من جانب الغرباء الذين لا يعرفون المشهد الأنثروبولوجي المعقد البلد.
وذهب جزء من أولئك الذين طردوا بصورة غير عادلة إلى الادعاء بأنهم استعبدوامن اجل تأمين وضعهم كلاجئين و الحصول على التعاطف الدولي، على الرغم من أنه لم يتم استعباد أي شخص على الإطلاق بل وكان بعضهم في الحقيقة عبيد بعض. وقد استمعنا إلى شهادات عديدة في هذا الصدد من موريتانيين في المنفى. كما وقد استخدمت هذه الاستراتيجية نفسها من قبل بعض الأفراد البظان -البيض في موريتانيا- للحصول على امتيازات مماثلة في الغرب. ومع ذلك، فإن الصورة النمطية التي تجعل الأبيض يستعبد الأسود أصبحت وجهة النظر الأكثر وضوحا في نظام أكثر تعقيدا من ناحية الطبقية الاجتماعية.
وعلى الرغم من أوجه القصور هذه، فإن اضعاف التوترات العرقية - بما في ذلك التوترات الناشئة عن مشكلة الحراطين المتزايدة و الملحة - يبدأ بحل مناسب لمسألة السود الموريتانيين. كما و إن معالجة المظالم المشروعة (المطالبات السياسية والهوية... الخ) لهذا المجتمع ستكون نقطة انطلاق جيدة.
عدم دقة منظمات حقوق الإنسان وإحصاءاتها
كما ذكرنا سابقا، فإن الأرقام التي نشرتها المنظمات الدولية لحقوق الانسان حول العبيد الموريتانيين تتراوح بين أربعة بالمائة لتصل احيانا إلى أكثر من خمس السكان. هذه الأرقام خيالية بالطبع! ولكن كيف توصلت إليها هذه المنظمات؟!
أول ما نلاحظه هنا هو أن حكومة موريتانيا لا تنشر أي معلومات عن التركيبة العرقية للسكان في تعدادها. وبطبيعة الحال، فإن حكومة تحرص على سرية البيانات العرقية فإنه حري بها ان لا تنشر معلومات حول ظاهرة -تدعي هذه التقارير- أنها تتخذ كافة التدابير لإخفائها.
والحقيقة الثانية الهامة هي أنه لم تتمكن أي وكالة دولية من إجراء أي تعداد للأرقاء في موريتانيا. حيث تاخذ جميع الوكالات الدولية بياناتها حول سكان البلاد من المكتب الوطني الموريتاني للإحصاء .
وبطبيعة الحال، يستطيع المهتمون الدوليون بالظاهرة وحتى المنظمات غير الحكومية المحلية إجراء دراسات استقصائية من أجل إعداد تقديرات لحجم مجتمع العبيد. ولكن لم تثبت أي منظمة غير حكومية أنها فعلت ذلك. وقد انتهى الناشطون الدوليون والمحليون والباحثون الذين جاءوا إلى موريتانيا للبحث عن العبيد على ذكر حالتين أو ثلاث حالات من العبودية، والتي تم الاستشهاد بها بشكل متكرر لدعم ادعاءات بانتشار العبودية.
صحيح أن وجود شخص واحد في العبودية هو امر مؤسف الى حد كبير ، ولكن في بلد يفترض أن ما يصل إلى خمس السكان مستعبدين يجب ان يكون من السهولة ان تجد مئات الحالات.
في غياب الحالات والبيانات الحقيقية، تعتمد المنظمات الدولية على أرقام لا يمكن الاعتماد عليها يقدمها السكان المحليون الذين لا تتوفر لديهم الدراية الفنية ولا الموارد اللازمة لإجراء دراسات استقصائية حقيقية بل يعتمد التاريخ المهني لهؤلاء الأفراد على الانطباع بوجود عبودية واسعة النطاق. ولهذا تشير تقديراتهم بوضوح إلى أنهم يعالجون ندرة المعلومات في هذا المجال بمجرد التخمين ، حيث يحسب أحفاد العبيد السابقين الذين لم يعدوا في عبودية كعبيد.
وبما أن زبناءهم لا يحتاجون إلى إحصاءات حقيقية، فإن التقديرات المتفاوتة للسكان المحليين هي ما ينتهي به الأمر في ملء صفحات النشرات الصحفية للمنظمات الدولية. وهذا يفسر ندرة الحالات، وتناقض الروايات والتباين الصارخ في الأرقام (من10%إلى 20 % أو من 04% إلى 20% ، على سبيل المثال)
وعلاوة على ذلك، فإن معظم القضايا المعروضة على المحاكم الموريتانية غالبا ما تتحول إلى حالات ممارسات سيئة في مجال العمل بدلا من حالات عبودية. إن وزارة الخارجية الأميركية، التي تراقب في كل مكان -من خلال السفارة الأمريكية في الجمهورية الإسلامية الصغيرة- قضايا من هذا القبيل، تستخدم العبارة الأكثر حيادا "الممارسات الشبيهة بالرق" في تقريرها السنوي منذ عام 1999.
والواقع أن تقرير عام 1999 يذكر أن "منظمة مكافحة الرق الدولية ذكرت أنه لا توجد أدلة كافية بطريقة أو أخرى لاستنتاج ما إذا كانت العبودية موجودة أم لا، وأنه يلزم إجراء دراسة متعمقة وطويلة الأجل لمعرفة استمرار الظاهرة من عدمه .هنا نقول انه لا بد من أن يكون الرق في انخفاض منذ ذلك الحين، ولكن في هذه التقارير يستمر في الارتفاع، على الرغم من عدم إجراء دراسات متعمقة من أي نوع.
وحتى في الوقت الذي تدين فيه الحكومة الموريتانية بتراخيها في تنفيذ قوانينها المناهضة للرق، فإن غالبية تقارير وزارة الخارجية الأمريكية تخلص إلى أن "نظام الرق المجرم دوليا و الذي تتفق فيه الحكومة و المجتمع على إجبار الأفراد على خدمة أسيادهم غير موجود ".
وعلى النقيض من ثنائية العربي سيدا و الأسود عبدا ، تشير بعض تقارير وزارة الخارجية الأمريكية إلى احتمال وجود العبودية في الجنوب: "كانت العبودية منتشرة تقليديا بين المجموعات العرقية في الجنوب غير الرعوي إلى حد كبير، فلم لم يكن لها أصول او صبغة عرقية لكون السادة والعبيد على حد السواء سود البشرة ".
ويستند هذا الرأي إلى تقارير وزارة الخارجية الأمريكية التي تعتقد أنه حتى قبل حظر الرق في الثمانينيات وقبل أن يصبح غالبية السكان مستقرا، "أن الرق بين الرعاة التقليديين قد تقلص إلى حد كبير بسبب التصحر المتسارع في السبعينات، لأن العديد من البيض اطلقوا عبيدهم السود السابقين لأن تناقص قطعانهم جعلهم غير قادرين على توظيف أو تغذية العبيد ". وهذا يتناقض مع اقتراح فيليبس بأن الرق تمارسه أقلية عربية ضد الأفارقة.
تناقضات
بين عدم اليقين حول وجود الرق،مرورا بتصور انتشاره بين الأفارقة في الجنوب حيث السادة والخدم سود،وصولا إلى تأكيد متناقض مفاده أن العرب دوما يتوقعون ان يكونوا مخدومين من طرف السود. يبدو أن صورة السر الأكبر في موريتانيا قد رسمت في غرفة مظلمة من الجهل، و بتوجيه من السياسات النيولبرالية الاستشراقية
وعلى الرغم من إن تقارير وزارة الخارجية الأمريكية لا تزال حذرة نسبيا، فإنها تقدم وغيرها ارضية خصبة لعدد كبير من الاقتباسات المختارة التي تدور في نفس الحلقة. فعلى سبيل المثال نجد ان الأرقام التي تشير إليها مقالة Middle East Eye الأخيرة و التي تضمنها تقرير مؤشر الرق العالمي و على الرغم من أنها أصغر من الأرقام التي ذكرتها شبكة CNN ولكن المقال لا يسلط الضوء على كيفية حصول مؤشر الرق العالمي على تلك الأرقام.
وعلى الرغم من وضعه موريتانيا على رأس القائمة، فإن الورقة المنهجية الخاصة بمؤشر الرق العالمي تعترف بهشاشة الأسس التي بني عليها هذا الترتيب: "لا تتوفر معلومات عشوائية عن استقصاء العينات؛ لم يتم إجراء تعداد للسكان في البلاد منذ بعض الوقت (حتى العدد الإجمالي للسكان موضع شك) ". المبرر الوحيد لهذه التكهنات هو ان 04% معدل أكثر تحفظا من المعدل الكبير 10%-20% و هي معدلات موجود في تقارير منظمة غير حكومية محلية SOS - Esclaves و BBC ، ولم تجر أي منهما دراسات استقصائية في البلد.
وتشرح ورقة منهجية مؤشر الرق العالمي هذا التخفيض على النحو التالي: "وبسبب هذه التحذيرات، حافظت مؤسسة المشي الحرة Walk Free Foundation على التقدير الأكثر تحفظا المستخدم في مؤشر 2013. هذه النسبة تقدر نسبة العبيد من السكان بـ 4% ". ليس من الواضح لماذا يجب أن تكون النسبة المحافظة أربعة في المئة مقابل خمسة أو ستة أو واحد حتى على سلسلة متصلة تبدأ من العشرة إلى الصفر.
وفي سلسلة إنتاج الإحصاءات، تعتمد المنظمات غير الحكومية الدولية مثل مؤشر الرق العالمي على نظرائها المحليين الذين يعتمدون ماليا على هذه المنظمات الدولية نفسها أو ما شابهها. وعلى نحو دائري، تميل المنظمات غير الحكومية المحلية أيضا إلى نشر احصاءاتها الخاصة بعد أن تنشرها المنظمات الدولية وذلك لإضفاء هالة من المصداقية الدولية عليها.
وهكذا، من أجل فهم أرقام الرق يجب على المرء أن يفهم أهداف ممولي المنظمات غير الحكومية المحلية.
وفي حين أنه من المهام المعقدة تتبع جميع المانحين الأجانب وتحديد مستوى استثماراتهم، فإن بعض هذه الجماعات اكتسبت بعض السمعة. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك المجموعة الأمريكية لمكافحة الرق (AASG فمنذ إنشائها في عام 1994، قدمت المجموعة المساعدة القانونية وأشكالا مختلفة من المساعدة إلى مجموعة متنوعة من الأفراد والمنظمات غير الحكومية العاملة في مجال الرق في موريتانيا. SOS Esclaves، التي تشكل بياناتها غير الموثوقة الأساس لأرقام مؤشر الرق العالمي لعام 2014، كانت لفترة من الزمن من كبار المستفيدين من الدعم المالي لـ AASG كما قدمت نفس الجمعية الدعم للمرشح الرئاسي السابق والناشط المناهض للرق بيرام الداه عبيد ولكن ما هي المجموعة الأمريكية لمكافحة الرق AASG ؟
AASG أسسها تشارلز جاكوب. وهو رجل له علاقات وثيقة باليمين المتطرف في إسرائيل وبعض المنظمات والشخصيات الأمريكية المناهضة للاسلام مثل مبادرة باميلا جيلر. للدفاع الأمريكي .وقد استخدم جاكوب مكانته العامة وعمله الأكاديمي للتحريض و اثارة الضحة ضد الاستيلاء المفترض على أمريكا بأمواج تسونامي الاسلامية .كما قام كل من جاكوب وجيلر عن عمد برعاية إعلانات و منشورات لمكافحة الرق تتضمن حقائق وأرقام مغلوطة عن موريتانيا.
وتفسر علاقات جاكوب مع إسرائيل صمته النسبي حول قضايا الرق في موريتانيا خلال العقد بين عامي 1999 و 2009، وهي الفترة التي كانت فيها موريتانيا على علاقة دبلوماسية مفتوحة مع إسرائيل. كما تفسر هذه العلاقات ايضا كيف يستخدم جاكوب حملته ضد القمع و الظلم الذي يرتكبه غير الغربيين (الذي يعني المسلمين و العرب) لتحويل الانتباه عن الفظائع التي ترتكبها إسرائيل ومكافحة نجاح حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات في الجامعات الأمريكية.
الخاتمة
على الرغم من الأخطاء والتناقضات في تقارير المنظمات غير الحكومية والتقارير الإخبارية، لا تزال هناك جيوب صغيرة من الرق في البلد. وھي موجودة في المناطق التي يضعف او ينعدم فيها دور المؤسسات الحکومیة فیھا خدماتھا. ومن المفارقات أن هذه هي أيضا المناطق التي لا تذهب إليها المنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية التي تدعي مكافحة الرق.
لا بد من معالجة هذه المشكلة لكنها مشكلة أصغر نسبيا مقارنة بمسألة أكثر إلحاحا في هذا الصدد. ففي حين أن مشكلة الرق في البلاد ليست بالحجم الذي تسوقه وسائل الإعلام الغربية (خاصة وأن البلاد قطعت علاقتها مع إسرائيل)، فإن البلاد لديها مشكلة كبيرة تتعلق بالرق فبالإضافة إلى الجيوب الصغيرة التي يمارس فيها الرق، فإن مئات الآلاف من العبيد السابقين وأطفالهم هم في المتوسط أفقر وأقل تعليما.
بدلا من تبديد موارد كبيرة في ذم البلاد وإثارة التوترات العنصرية بين مختلف جماعاتها العرقية يمكن لهذه الوكالات الدولية والحكومات الأجنبية، إذا كانت مهتمة حقا، أن تساعد على سبيل المثال، في وضع برامج للتنمية المستدامة في المناطق الأكثر هشاشة ( وليس الأكثر صخبا ومتصلة دوليا) أعضاء هاراتين الحية. ويجب أن يتضمن ذلك أيضا تدابير حقيقية للوصول إلى تلك القطاعات لضمان أن يكون أعضائها على دراية جيدة بإدارة البرامج التي تنشئها الحكومة لتحسين حياتهم، وأن يشاركوا فيها.
أحمد ميلود: كبير الباحثين في مبادرة جنوب غرب لدراسة النزاعات في الشرق الأوسط (SISMEC) ومرشح الدكتوراه في كلية دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة أريزونا. وتشمل اهتماماته البحثية دراسة مختلف حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، مع التركيز بشكل خاص على أعمال المفكرين والقانونيين والمثقفين العامين الذين يشكلون المعتدلين من الإسلاميين.