ذكرياتٌ في ذكرى رحيل المرحوم مولاي الحسن ولد المختار الحسن

أربعاء, 10/05/2017 - 14:55

أحمدو ولد بزيد 

ست سنوات والدنيا بلا مولاي الحسن!!

ليسمح لي قليلا نزار:

سنوات "ست" من الــــحزن مرت --- مات فيها الصفصاف والزيتون

سنوات فيها استقلت من الـــحب --- وجفت على شفاهي اللحون

سنوات "ست" بها اغتالنا اليأس --- وعــــلم الـكلام واليانسون

فانـــــــــقسمنا قبائلا وشـــــعوبا --- واســــــــتبيح الحمى وضاع العرين

 

في مثل يوم الخامس والعشرين من شهر إبربل المنصرم مرت الذكرى السادسة لرحيل المنعّم مولاي الحسن ولد المختار الحسن!!

 

نعيش اليوم في دنيا لا تسعفنا به، ولا حتى بذكره، فوا أسفاه!! نسيَت دنيانا كلَّ شيء عن مولاي الحسن، كأنها لم تغْنَ به بالأمس، ولم يكن فيها يوما مولاي!!

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا --- أنيس ولم يسمر بمكة سامر

 

ضحى ذلك اليوم من ربيع العام الحادي عشر بعد الألفين استيقظتُ في صباح ماليزي ممطر، ما لبثتْ شمسه أن تبدت بأشعتها كأنها تحمل نُذر شيء ما!!

 

بدأتُ يومي بمستهلاته المعتادة، قبل أن يعاجلني الفيسبوك بنعي من كأن امحمد عناه بقوله:

 ومن كان للــــــــنزال أمنا ومنزلا --- وكعبة أمن لا يضام نزيلها

ومن كانت الأفواج في كل موطن --- يــــلوذ به تــــنبالها ونبيلها

ومن يرأم على وصفه سريعا كذلك قول امحمد:

على نعم الملاذ إذا ألمت --- نوائب ذات شر مستطير

ولعل في قول ابن سليمان الحلي بلاغا من بعض نعته:

نعى الـــــناعون للـــــــشرف المعلى --- فتى الأشراف سيدها النقيبا

به لـــــــبس الــــــزمان قــشيب برد --- فجوذب ذلك البرد القشيبا

مضى محض الضريبة في المعالي --- وخـــــلد من مآثره ضروبا

 

بين صدمة النعي تحت نير النأي، ومتانة الآصرة في مقابل الفاجعة، جلست وقتا للتفكير في سرعة زمان الأشياء وإن طاولت في مباهجها القمم الشوامخ!! بعد يسير من التأمل في مرايا حنايا الدخيلة التي عرضت أشرطة طويلة من محاسن الذكر وجميل الرابطة وصفي الوداد بيني وإياه، عدت بتحصيل الحاصل من التسليم بأمر لا مردَّ لقضائه، وأنَّ ما كان لبشر الخُلد.

 

أطلقتُ للتذكار أزمته، فما اجتزت بونا إلا تبيت ما ينسي في سابقه، وما عرَّجت معرجا إلا وجدته موصول الحبل بلاحقه...

سلسلة متصلة الحلقات، ومسطرة مستقيمة الخط...

ستبقى نادباته في محل صدق ما بقي ذكره....

 

لكن هيهات هيهات..؟ فهل نحن ما زلنا في ذلك الزمان الذي يذكر أبناؤُه من كان حميد الذكر؟ لا أحسب ذلك، وأنى له أن يكون؟! فلو كان قليل من هذا في حيز الوجود، لكنا نطالع كل يوم عن مولاي الحسن، ونكتب عنه في كل ظرف، ونشكو إلى الله التقصير، كما قال عامر أبو الطفيل لمعاوية رضي الله عنهما.

 

كلا، إننا في رقبة حقب الزمان الغدور، وعهد طغيان المادة والكسب الرخيص الجامح إلى تناسي أصحاب الفَعال الحسنة الممزوجة بعتيق النبيل من القيم، والمشربة بكل حلو من الطباع!!

إذا لن يكون أبناء هذا الزمان بقدر من الأهلية لتذكار مثل أولئك، فما كان لهم الخيرة، فقد غشيَ الوقت ما غشيه من ظلماء اللؤم، والإنزياح عن جادة احترام أصحاب كبريات المعاني وصناع القيِّم، أحرى إنزالهم مراتبهم!!

 

مات مولاي الحسن، والأعوام تترى بعد الحادث الجلل... وفي عنق الوافر من الناس ذماما وفيرة لمولاي الحسن، نسوا ذلك أم تناسوه!! لكن التاريخ ذكور لتسجيلاته!!

 

عقدٌ من الزمن عمر علاقتي بالسيد مولاي الحسن - رحمة الله عليه - كان لي بمحل الأب وموطن الأخ و مباءة الصديق، كان جلدة بين العين والأنف، وثمت كانات كثيرة قد لا يفي بها الإحصاء في هذا المحل...

 

كان المراط يحظيه ولد عبد الودود - رحمه الله - كثيرا ما يقول ذات تدريسه: "قال أحمد" فسأله أحد تلامتذته الجدد قائلا: من أحمد الذي تكثرون من العزو له؟ فأجابه: يا بني، إذا قلت أحمد وتوقفت عن نسبته، فالمقصود أحمد ولد محمد سالم، وإذا ذكرت أحمدَ آخر فلن يرتد الطرف حتى أضيفه إلى والده!

 

 إذا سئلتُ عن وصف مولاي الحسن؟ لا أجيب بغير: هو مولاي الحسن فقط، ولا أسعف السائل بإضافة نعتٍ، فهل تنحصر تعريفات مولاي الحسن برجل الأعمال أو الدبلوماسي أوالمثقف أوالمنفق... إلى غير ذلك من نعوته الكثيرة!!

 

تعريف مولاي الحسن برجل الأعمال نشاز على التناسق بين الصفة والموصوف باعتبار محددات المصطلح في يوم الناس هذا، إذ التعريف الحادُّ لرجل الأعمال - في عرفنا - هو ذلك الإنسان الكادُّ في جمع شتات المال الضنين به على محالِّ صرفه، فأي تناسب بين مولاي الحسن وذلك الوصف؟!

 

تعريف مولاي الحسن بالدبلوماسي يحيل إلى غلبة الصفة عليه، دون غيرها، وفي مولاي - رحمه الله - صفات حميدات كثيرات غير الدبلوماسية!

 

وإذا قلت إنه المثقف فقد وضعته في مثابة التضييق على الشاسع من نعته في حقل المعارف الضخمة، دون إدراك موسوعتيه في المعارف ومطالعاته الواسعة، وعلمه المتقن بلغات عديدة...

 

أما ترجمته بالمنفق فشيء دون تامَّ نعته، إذ صار هذا الوصف على منحى من التشويش في حدوده، فيعنى به اليوم من لا يتوارد محلا مع مولاي الحسن في البذل وإهلاك المال في حاجات محتاجيه، فإياك - يا رعاك الله - أن تضيق واسعا.

 

سوف آوي إلى ركن شديد من الحصافة في وضع العبارات في صحيح محالِّها، فلن أقول: كان مولاي الحسن أوفى الناس، ولا أكرم الناس ولا أصدق الناس ولا أعف الناس عن أعراض الناس... لكن أقول: إنه كان - رحمه الله - أعف وأوفى وأصدق وأكرم من عرفته.

جزى الله عنا والجزاء بفضله --- ربيعة خيرا، ما أعفَّ وأكرَما

 

كان أبناء الحسن ولد حمادي فرسان سبق في العلم والتصوف والتقوى والأدب ومحاسن الأخلاق.... نجلتهم أرومة الشرف، فكان غرسهم في منابت الخير، فقد أنبتهم ربهم نباتا حسنا وتقبلهم بقبول الحسنى.

أحد أولئك الرجال هو المختار ولد الحسن العالم العامل والشاعر والنظامة، أخذ ورد المريدية عن الشيخ أحمدو بمبا - رضي الله عنه - وكان من أهل الحظوة والتقريب في حضرة الشيخ، كما كان الحال مع باقي أبناء الحسن ولد حمادي.

 

أدى المختار مناسك الحج، وخلد رحلته إلى الديار المقدسة في نظم ضمنه مراحل سفره ومشاهداته، كان أول من أقام وأمَّ صلاة الجمعة في مدينة نواكشوط، وقد ترك مؤلفات ومجموعة أشعار حققت ضمن ديوان أبناء الحسن من طرف الأستاذ الحمد ولد أحمد ولد المختار.

 

عام 1937م بالجانب الغربي من "انْواتِيلْ" - مرابع آلِ حمادي - ولد مولاي الحسن لأبيه المختار المذكور أعلاه، وأمه: اخْوَيَّه بنت اخليل السباعية، فكان نتاج محتدي الشرف.

 

في وسط آلِ حمادي الحافل بمؤهلات "التَّزَاويتْ" والناظم للوافر من عقيان الفتوة، والمرتكز على أساسات التقوى والنأي عن قول وفعل ما لا ينبغي، تربى الطفل يرضع صريح تلك اللبان من ثُديِ والده وأعمامه، فشب على غير العوز من العلم والأخلاق وحسن الديانة.

 

 في مدينة "كَبَمَيرْ" السينغالية كان لأبناء الحسن ولد حمادي موطئ قدم صدق، ومثار فواتح خير، ومأوى لابن السبيل، وفي تلك المدينة دفن البعض منهم مثل: أحمدو ولد الحسن ومحمد يحظيه ولد الحسن وولد متالي ولد احمدو ولد الحسن....

 

في "كَبَمَيرْ" استهل مولاي الحسن طورا آخر من مراحل الحياة، حيث مارس التجارة مع ابن عمه المختار ولد احمدو ولد الحسن، وفي مرحلة لاحقة يمّمَ مدينة "اندرْ" ليزاول جزءً من التجارة آخر، قبل أن يلتحق بالنقل العمومي على مسافة بعيدة تعطي الإشارة عن طموحاته الفياضة وآماله العراض، فكان يقطع الطريق الفيدرالي بسيارته انطلاقا من "اندَرْ مرورا بِـ الكَدْيَه والعَرْگْ إلى نهاية الرحلة في بِئر أم اگْرَيْنْ.

 

وكما قيل: إن الرجال مطامح! كانت مآرب مولاي الحسن جامحة بتفكيره إلى غير ذلك، فذات مساء دخل عليه في دكانه رجلان من موظفي "المخزن" يرتديان ثيابا عصرية، ويتكلمان فرنسية متقنة، فاشتريا من عنده بضاعة، وكان لمنظرهما وقولهما جموحا بنفسه عن حاله، فقال: لأكوننَّ يوما مثل هذين، قصر الزمان أو طال!!

عندها طلب من زميله سَرِينْ سادِي أن يعينه على تعلم اللغة الفرنسية، كما صار يختلف إلى زملاء آخرين في ثانوية "فيدربْ" في اندرْ لمتابعة الدروس عن طريقهم.

 

في العام 1961م بدأ مولاي الحسن التحضير للباكلوريا في "ثانوية البنين" الوليدة في نواكشوط، وذلك بعد حصوله على شهادة الدروس الإعدادية في السنة السابقة لذلك.

 

كانت ثقافة مولاي الحسن الراسخة وأناقته الراقية ولغته المتقنة ودقته في معالجة الأشياء، حافز الحكومة آنذاك لاكتتابه عام 1961م في الشؤون الخارجية كوكيل للتشريفات، بعد ابتعاثه للتدرب في وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، فكان - رحمه الله - الموظف الأنسب في المحل المناسب، حتى عُدَّ الأب الشرعي والمؤسس الفعلي للتشريفات والمراسيم الموريتانية.

 

استمر مولاي الحسن مديرا لتشريفات الدولة إلى عام 1969م، فقام على الأمر أحسن قيام، في ظرف استثنائي يتوسل بذل الوسع الكبير في إبراز الوجه الإحتفائي للوطن وحسن ضيافته، وقد كانت تلك الفترة مزار الوافر من الوفود.

 

في العام 1969 عين قنصلا عاما في آبيدجان، قبل أن يعين 1971 سفيرا في الدولة نفسها، بعدها عين سفيرا في الولايات المتحدة إلى غاية 1973، ومنذ ذلك التاريخ اعتمد ممثلا دائما لبلاده في الأمم المتحدة إلى تاريخ الإطاحة بالنظام المدني في العام 1978م

 

كانت مرحلة انتدابه في الأمم المتحدة حافلة بالأحداث والقضايا التي تعني موريتانيا، ففي سنة 1975 تولت موريتانيا رئاسة مجلس الأمن، وكان رئيسه مولاي الحسن، وقد أبان خلال تلك المهمة عن كفاءة دبلوماسية، وقدرة مشهودة في حوك نسيج علاقات دولية أفادت بلده كثيرا.

 

في العام نفسه لجأت موريتانيا والمغرب إلى محكمة العدل الدولية في "لاهاي" لطلب الرأي الإستشاري حول الصحراء الغربية، لقد أدار مولاي ذلك الملف بإتقان حيث كان رئيس الوفد الوافد إلى المحكمة، وقد أثنى أعضاؤه على دوره، وأشادوا بحنكته وحكمته التي قادت إلى كسب موريتانيا رهان رأي المحكمة.

 

استمر مولاي الحسن في منصب المندوب الدائم لموريتانيا في الأمم المتحدة، إلى أن حدث انقلاب 1978م طلب مولاي الحسن إعفاءه من منصبه، معتبرا أن مرحلة أخرى تتطلب مسؤولا آخر قد يدير ملفات البعثة بطريقة تتواءم مع المرحلة الجديدة وتوجهات النظام العسكري الطارئ.

قدم مولاي - رحمه الله - دراسة مستوفاة من ثمانية وعشرين صفحة عنونها بـ  "سياسة موريتانيا الخارجية وآفاقها" وسلم الدراسة للرئاسة والخارجية، ليطوي صفحة طويلة من العمل الجاد في خدمة البلد.

بعد تلك الفترة يمّمَ مولاي الحسن كعبة الأعمال التجارية، ليوصل حبل نجاحاته بالسابق من عمله المهني، لقد كان نجاحا بقدر همة وذكاء الرجل الذي جعل قاعدة جبن رأس المال كأمس الدابر، لقد كان يقتحم ميادين استثمارية بكرا لم تطرق من قبله!!

 

كان - رحمه الله - المستثمر الأول في مجال الصيد البحري مستهل ثمانينيات القرن الماضي، مردفا إلى ذلك العملَ في حقل المصارف الخاصة مع الثنائي سيدي محمد ولد العباس والإمام ولد اسباعي، قبل أن يقطع الصلة بذلك المجال ورعا منه وطلبا لحِلِّية المال، وطهارته، وصقالة العائد من الأرباح، ولا أحسب أحدا من رجال الأعمال سحب استثماراته من الميدان المصرفي قبل مولاي الحسن ولا بعده.

 

تتصل حلقات السلسلة، وتتوارد الطموحات أماكن التصميم والتنفيذ، فيقتحم مولاي الحسن - رحمه الله - مجال الهاتف النقال مع شراكة تونسية وموريتانية، وكذا مجال التأمين الإسلامي الذي لم تعرفه سوق الاستثمارات الموريتانية قبل ذلك!

 

موازاة مع أشغاله التجارية، لم يهمل مولاي الحسن خدمة بلاده وتمثيلها في المحافل والهيئات الدولية التي تعودها واعتادته، فقد ظل من العام 1979م إلى العام 1987م ممثلا لموريتانيا في لجنة الأمم المتحدة المكلفة بالوظيفة العمومية الدولية، وقد انتخب في المنصب مرتين.

 

لم تُنس الوظائف السامية والتجارات الرابحة مولاي الحسن جذوره النابتة في خصيب تربة العلم والمعارف، فقد ظل شغوفا بالتعلم، ولوعا بالمطالعات، فسيح الجناب للعلماء والأدباء، محبا لنشر المفيد من المصنفات.

 

بعد تركه الوظيفة موفية السبعينيات اجتزأ وقتا للعلم وتوسيع دائرة معارفه، ولتعميق ذلك عقد مجلس مدارسة في بيته، انتخب له رجال علم نهل من معينهم الصافي حتى بذَّهم في حلباتهم.

 

لما كان على تامِّ العلم بأن المال وسيلة وليس غاية، قام على إهلاك الوافر منه في طباعة كتبٍ جليلة حجزت مكانها الأهم في رفوف المكتبات الموريتانية، من ذلك كتاب "مرام المجتدي" للشيخ محمد الحسن ولد أحمدو الخديم على شرح الكفاف، وقد طبع مولاي هذا الكتاب في طبعة فاخرة بعثت الفخر والأمل العريض في نفوس طلاب المحاظر، يقول الشيخ محمد الحسن مخاطبا مولاي الحسن:

تحايا لمولاي الـــــــفتى الحسن المسعى --- تود لها الأبصار لو كانت السمعا

أبت غير نـــــدب كان في كــــــل سؤدد --- هو "الوتر" لولا قومه لم يجد "شفعا"

فها هو "فرد" في العلى ضم "جمعها" --- إلى كل "فعل" يكسب "الفاعل" الرفعا

به شـــــــــــرف الآباء دينا وعــــــنصرا --- تسامى إلى من بات يخترق السبعا

وفي قومه ذا الــمجد "دار" "مسلسلا" --- "تسلسله" و"الدور" لم يخشيا المنعا

فلا زال ذاك "الجمع" جـــــــمعا مسلما --- يقاوم في العلياء "مفرده" الجمعا

ويــــــــحظى لديه "المجتدي" بـ"مرامه" --- ومن حسن "طبع" عنده يغبط "الطبعا"

 

وفي الجبة غير ذلك كثير من منشورات مُحب للعلم وذويه، فقد طبع كتبا أخرى أبان حجم الإنفاق عليها حبه الجبلي وولعه الطبيعي بالإنفاق على مفيدات التصانيف، من ذلك:

- المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء للدكتور يحيى ولد البراء، وهي موسوعة نوازلية تقع في مجلدات ضخمة.

- الدين اليسر للأستاذ الحمد ولد أحمد المختار.

- ديوان تهذيب الأفكار في الأدب الحساني للمرحوم محمدن ولد سيد إبراهيم.

- كتاب الممتع المحيط من كلام أهل شنقيط لابن عمه الأديب إسماعيل بن محمد يحظيه.

- دليل الناسك لما يخفى من المناسك للشيخ محمد الحسن بن الخديم.

وفي رحاب العلم لم يدع مولاي اليد للنشر والإنفاق على أهل العلم فقط، بل شارك في التأليف من بابه الواسع المفتوح على الثاقب من الفكر والمشرع على مساحات الجدة والإبداع، والمطل على مناحي التركيز والإتقان، حيث صنف كتابه الرائع الرائد في مجاله: "الإلمام بأصح ما صح في دعائم الإسلام"

وتحت عنوان وضمن صفحات الكتاب غناء عن الاستفاضة في التحدث عن قيمته، لمن وفق في مطالعته.

 

لا يمكن لمكانة مولاي العلمية إلا أن تكون موصولة العلائق بنتاجاتها من محبة للخير، والفَعال الحميدة، تجلى ذلك في شغفه بالإنفاق والبذل ومد اليد لطلاب الحاجات ووراد مناهل خيره العميم...

رتَّب - رحمه الله - الكثير من الرواتب الشهرية لأقاربه من ناحيتيه، وكان رقيب غايات أصدقائه، وأجرى المياه لأهله، ووظف الكثير من العاطلين، وعالج الجم من المرضى... والتعداد لأفعاله في هذا المنحى متعذر الحصر!

قبل وفاته بقليل كانت قافلة لموريتانين في طريقها لإغاثة غزة، لكن شحا في الموارد المالية أوقفها في مصر، وقد استغاثت بكثير من أهل المال الذين أعاروها الصماء، قبل أن يصغي إليها مولاي الحسن ويسعفها بمبلغ مالي كبير، حل قيودها وتركها إلى حيث أرادت:

وهذا من مناقبه قليل --- وقد يبدو القليل من الكثير

 

كلما مررت بجميل المرابع شمال سفارة روسيا، وعلى الجانب الشرقي من فندق حليمة، تذكرت أياما ولياليا... تذكرت زمانا لا أبغي به بديلا بزمان المختار ولد حامد والشيخ بناني:

فذكرني أيضا زمانا مساعفا --- أحب إلى نفسي لياليه من نفسي

 

تذكرت أنا مولاي الحسن، وكيف لي أن أنسى وأسلو عن الذكرى؟ وأنا الذكورُ....

غَيْرْ آنَ گاعْ أصل فگادْ --- الَّـا نتْفَگَّدْ نَـــتْفَگَّدْ

مَانِ نَاسِ شِ والَــــعَرَّادْ --- إِفَگَّدْ بِيهَا كَلْ ابلدْ

 

تذكرت الساحة الوسيعة، والمنزل الرجب والباب المورود والفناء الخصيب... تذكرت قول ولد ابنُ في ولد ابنُ:

وإذَا ما دخلتَ فيها دخلتَ الـ --- أَمن واليُمنَ والخصيبَ الجنابَا

إن للدارِ لو علمتَ حـــــمى لم --- يك يرضى إلى سواها انقلابا

تَأمنُ الرجل منه سمّ الأَفَاعِى --- والجذَا الماءَ والرَّبيض الذئاب

 

تذكرت أيانَ أقدمُ على الموعد المحدد ضحى النهار أو ناشئة الليل، فيطل  من الدور الأعلى مولاي قادما بطلعته البهية، وبسمته العريضة الجميلة، ورائحته العطرة، وشمائله الحسان... كنت إذا رأيته تأملته ببيتي حسان:

وقد كــنا نقول إذا رأينا --- لذي جـــــسم يعد وذي بيان

كأنك أيها المعطى بيانا --- وجسما من بني عند المدان

 

سلام على ذلك الصالون وهدأته تحت سقف الرتابة والترتيب ومقاعده الوطيئة، وأرائكه الوفيرة، ومائدته الطيبة، وشرابه الحلو البارد....

 

سلام على من إذا تكلم أفاد، وإذا استمع أصغى وما قاطع ولا خيب محدثه، سلام على من يحترم الوقت ويرعى الذمام، ويوفي الكيل ويعطي الجزيل، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق....

 

سلام على الرقم: 6320026

سلامات ومرحبات حين تتصل، فلا يغشى السماع غير الصوت الجميل الحامل لصادق القول، وحكيم الكلام...

سلام حين تقابله فلا ترى عوجا ولا أمتا، كان مولاي الحسن رجلا مستقيما في سائر شؤونه.

 

سلام على غاشية الباب وطراق المنزل، وخلَّص الأصدقاء...

إن الزمان لن يعيد تلك الجلسات الحفيات والتحيات التامات وأصحابه الذين تلقاهم إذا لقيته، فلا هو بمختلف ولاهم بمختلفبن حين تلقاه تلقى تارة امبارك ولد بونه مختار وتارات مع المختار الشاعر والمختار ولد ابوبا والإمام ولد أسباعي وعبد الله ولد ابنَّه وسيدي ولد ابراهيم ومولاي اشريف وإسماعيل ولد محمد يحظيه.... مات بعضهم وبقيتهم أحياء لكن بلا مولاي الحسن!!

 

في مكتبه بالتأمين الإسلامي كانت لنا ساعات سرقناهن عن ريب الزمان، وألف سلام على ذلك الشاي المعد من "ورْگَتِه" - المركونة في زاوية المكتب - المختارة باعتناء، وعلى كاسات الشاي حديث لا يمله السامع ينقضي وفي ذهنك الكثير من الحكمة، فلا يحدثك لغوا، يختار العبارة قبل قولها، لا يفحش في الكلام، ولا يغتاب ولا يسرح إلى مراتع ما لا يعنيه!

 

في شهر رمضان فطور وصلوات وسامر متئد مفيد غير ممل ولا مملول...

 

كان - رحمه الله - برا بأمه، وبره بأخواته كبره بأمه، يحنو على كل قرابته، ويجل أهل بيته، ويخالطهم بسلوكه الحسن، لقد رأيت شيئا من ذلك.

 

تَسِم طبعه الكياسة، والرزانة، كان "ديماني" الطبع بامتياز، شمائله من سجيته، لا يتكلف الطباع، يغض الطرف، ويعتمد الإشارة، تعرف من قسمات وجهه إذا سره الأمر، ويخفي الوجه ردة فعله حين يسوءه الشيء، لا يفتخر ولا يعجب بشأنه، متواضع، متسامح، بشيرٌ يخلل الحديث بطرف ونوادر، كان سلكه - رحمه الله - "مبروم كرة" كما وصف يوما المختار ولد حامد "سلك" الشيخ بناني.

 

ما كنت أحجو أن الموت سيناله بتلك السرعة!!

 حدثني - رحمه الله - في أواخر لقاءاتنا عن مشروعين كان ينوي القيام بهما أحدهما: إنشاء مؤسسة ثقافية تضم مكتبة وصالونا ثقافيا وجوائز - إن لم تخني الذاكرة - وشيء من ذلك النوع، لكن نفاذ الموت كان أقرب من تنفيذ المشروع!

والأمر الثاني كتابة مذكراته التي لم يكن يرغب في أن يتولى هو كتابتها، بل كان يريدها على نحو مقابلة في كتاب مع كاتب بمقدارٍ من الشهرة وجودة القلم، لكن الأجل كان بمقدار آخر!!

 

في سنواته الأخيرة كان قليلا في نواكشوط، فقد ترك تسيير الأعمال التجارية لغيره، وانزوى للاستجمام والمطالعة والعبادة في منتجع شيده في منطقة "تُورَارِينْ" التي عناها محمذن ولد الداهي بقوله ذات سفر:

ظلت عتاق النِّوى يوما تُرارِينا --- حتى أجن النَّوى عنا "تُرَارِينا"

 

كانت لقاءاتي معه في سنواته الأخيرة محدودة بأسباب انزوائه غالب الوقت في البادية، وانزوائي في المهجر، لكن لم أفوت زيارته إذا جئت البلاد.

 

لا أعلم أحدا من مجتمع البيظان كله أوفر علي مننا منه، ولا أعلم أحدا في عنقي من الذمم له مثل مولاي الحسن، ولا أحد من مجتمعنا الموريتاني أجل عندي منه، سأذكره ما حييت، وأترحم على روحه الطاهرة ما وفقت إلى ذلك.

 

ليلة أبَّنه نادي الديبلوماسية في فندق الخيمة، أعطوني حصة من الكلام، وعالجت كلاما لاستيفاء حيثيات بعض الجوانب من شخصيته، وما استطعت، ولأني أدعي بعض الأحيان علما بشخصية مولاي الحسن فقد كنت تلك الليلة على رأي أبي نواس: حفظت شيئا وغابت عني أشياء...

لكن قول امحمد ولد هدار هو الآ أوسع لي في التخلص من غير المستطاع:

الَّـا لُــــــــكَنتْ إِلَى غَنَّيتْ --- اعْلَ مَنْتْ اجْرَيْفِينْ اتْلَيْتْ

نَجْبَرْ تــــعبيرْ ابْتافَلوِيتْ --- ايْبَردْلِ  فِــــــيهَا لَــخْلاگْ

انْغَنِّ بَـعْدْ إلَى گَـــــدَّيتْ --- غَيْرْ الــــتَّعْبيرْ اغْلبْنِ مَاگْـ

ـلْتُ مَا فَــتْ اعْتَنْتْ اعْلِيهْ --- خَـــلَّيتُ فَـــخْلاگِ يَــدَّاگْ

شِ فمْ الخَلاگْ أخْبرْ فِيهْ ---  والِّ يَـــنْفعْ فيهْ الــخَلَّاگْ

 

في باريس التي أحبها واستجلى روائعها - كما فعل الباشا البيضاوي ذات علاج - في يوم الخامس والعشرين من شهر إبريل عام 2011م أسلم مولاي الحسن روحه لخالقها، قبل أن ينقل جثمانه الطاهر إلى موريتانيا وتصلي عليه جموع غفيرة، ويوارى الثرى في صعيد لَگْصَرْ حيث والده المختار رحمة الله عليهما.

بكاه الناس وحق لهم، وأجاد الشعراء في رقائه، وما أوفوه الحق، ومن رائع ذلك قول الحسين ولد محنض:

أبقيت بعدك يا مــــــولاينا الحسنا --- لما ترحلت عــــــــــنا ذكرك الحسنا

من كل فعل له رائيــــــــه أظهره --- لنا وقول بـــــــــــــــــه راويه حدثنا

يثني عليــــك على وجه الرثاء به --- من كان بالأمس يتلوه عليـــــــك ثنا

لم يخل منه لســــــــان ظل ناطقه --- يدمى به العين أو يشــــجي به الأذنا

من قائل كان ذا فضل وذا صلـة --- وقائل كان مـــــــــــــــأمونا ومؤتمنا

وقائل هاهنا آثار نعمـــــــــــــــته --- على المعيــل الذي قد كان أمس هنا

وقائل كان يأتيـــــــــنا على عجل --- بما نسد به في الحــــــــــــــال خلتنا

وقائل كان يعطي القوم مستتــــرا --- أضعاف مـــــا كان يعطي مثله علنا

صلت عليك ألوف ليـــس يجمعها --- إلا أسى عز منهم صبــــــره وضنى

وكم بكاك فقيـــــــــر لست تعرفه --- كانت عطـــــــاياك تجبى نحوه زمنا

فارقتنا غير مملول وقد ملئــــــت --- منك القلوب التي واسيتـــــــها حزنا

يبكي عليك بلا أهــــــل ولا وطن --- من كان يعرف فيــك الأهل والوطنا

أو كنت تسعى إلى تحقيق حاجتـه --- أو نيله رغبــــــــــــــات عنده ومنى

أو كنت تلقاه مبسوط الجبين وممـــ --- ـدود اليدين وفي الوجه البشـــوش سنا

أو كنت تحبوه بالمال الكثير جدى --- ولم تكن أبدا بالمــــــــــــــــال مفتتنا

وكنت تبذل منه مـــــــا  يزول به --- فقر الفقير ويــــــــــزداد الغني غنى

لم تشهد الزور أو تشهد لقــــائله --- لم تعرف الحقــد والأضغان والإحنا

ولم تكن من قرنــاء السوء مقتربا --- ولم تكن تستبيـــــــــــح اللهو والددنا

وكنت أحرص من نلقى على صلة --- موصــــــــولة وأقام الفرض والسننا

وكنت للدين حصــــنا لا يضام له  --- ركن وممن إلى نيــــــــل العلوم رنا

وعشت طاهر عرض كنت تحفظه --- حفظ المحاذر من أن يحمــــل الدرنا

وكنت في الفضل معنا نجل زائدة  --- جودا  وفي المجد سيفا نجل ذي يزنا

من عصبة شرف المولى مكانتهم --- وساد من نجلـــــــــــوه البدو والمدنا

جازاك عن برك الرحمن مكرمة --- ونلت مــــــــن جنة المأوى به سكنا

وبارك الله في الأهليــــن أجمعهم --- وألهم الصبر من منــــــهم نأى ودنا

تصفح أيضا...