مرحلة ما بعد 2019.. والمفاتيح الإستراتيجية الثلاثة / سيد أحمد ولد امصيدف

أربعاء, 16/01/2019 - 18:07

 قد لا يخفى على الجميع، أننا كدولة  بالكاد تطفئ شمعتها الستين، مازلنا حقيقة بعيدين كل البعد من أن نصل مرحلة نضج الكيان السياسي أو نستكمل شكل و مضمون الدولة المعاصرة بمختلف أبعادها ذات العلاقة الوطيدة بعنصر الزمن و ما يتيحه من فرص اكتمال و تجذر التجربة السياسية، بحيث يصبح من المفيد دائما أن نحاسب بلدنا على كل صغيرة و كبيرة، شاردة و واردة، لاسيما حين نعود قليلا إلى الوراء لنتذكر كم كانت كثيرة و شائكة تحديات نشأة الكيان،التي لم يكن بأبسطها تحدي قيامه من نقطة اللاشيء تقريبا، فلم نرث عن المستعمر -خلاف ما حصل مع جل المستعمرات - من مؤهلات الدولة سوى سيادة على إقليم مترامي الأطراف، ظل العمل على استكمالها حلما تراوده المنغصات و تترصده الأخطار من كل جانب. كما فاتتنا منذ البداية المحافظة على حاصل الديمقراطية الجنينية التي ورثناها عن المستعمر، حيث وأدناها مبكرا و بنينا -بدلا من التأسيس عليها- نظاما أحاديا حد من التراكم الديمقراطي، فأضعنا بذلك فرصا ثمينة لا نزال ندفع ثمنها إلى اليوم.
       من هنا، و انطلاقا من خصوصية الظرف السياسي الخاص الذي تمر به البلاد، و أخذا بعين الإعتبار للإكتشافات الغازية المهمة التي وقعت عقود استخراجها مؤخرا والمؤذنة بدخول بلادنا عهد تصدير الغاز ابتداء من العام 2021  مع ما تطرحه النقلة الإقتصادية الموعودة من أسباب الأمل و مبررات القلق في آن واحد، و استحضارا للمعطى الخارجي خاصة في بعده الإقليمي المثمثل في وجودنا جغرافيا داخل محيط إقليمي له مشاكله و إشكالاته الأمنية المزمنة، كخطر الإرهاب، و الإتجار بالمخدرات، و النزاعات الإثنية و العرقية المسلحة في بعض الدول، فإن الوقت قد حان كي يستحضر الجميع أهمية المحافظة على الوطن و أولوية تحصينه من كل مهددات أمنه و انسجامه الإجتماعيين من جهة، و ضرورة استثمار كافة الفرص المتاحة في الوقت الحالي و على المديين القريب و المتوسط لجعلنا نتبوء المكانة اللائقة بنا كبلد يتطلع لتنمية حقيقية، شاملة و مستدامة تؤهله لمرحلة من رفاه الفرد و المجتمع ما فتئت طيلة تاريخ  الدولة غاية كل واحد منا من جهة ثانية.
      إن بناء دولة عصرية محصنة من أسباب تراجعها، مزاحمة بمؤهلات تقدمها في ميادين النهوض يتطلب فضلا عن فهم الواقع على حقيقته وفق المعطيات و الحقائق سالفة الذكر، ضرورة تحديد مجموعة أولويات عامة يدخل تنفيذها بحكم اللحظة التاريخية للبلد في إطار المستعجل من مبادرات وطنية لا ينبغي تأخيرها أو التأخر عنها طالما بقيث هي المداخيل المرحلية و الإستراتيجية الوحيدة تقريبا لولوج مرحلة ما بعد 2019  في وضع سياسي و اجتماعي تغمره المحبة و الإخاء و تطغى عليه إرادة التكامل السياسي لإصلاح ما أفسدته النزعات السياسية الضيقة لبعضنا في هذا المعسكر أو ذاك طيلة عقود خلت من عمر الدولة، لم تخل من فرص نادرة لتقوية البلد، لم نوفق لاقتناصها في أغلب الأوقات، لشدة ما استهوتنا الهويات الفرعية، عرقية و قبلية و جهوية على حساب الهوية الأصلية الجامعة......إلى أن وصلنا لما نحن فيه الآن من  منافسة  الدولة من طرف تلك الهويات الخاصة في أسمى وظائفها العامة و أعز معززات عقدها الإجتماعي المرتبطة وجوديا بحدود سلطانها السياسي و مجالات نفوذها الإجتماعي و الإقتصادي.

         لا تنمية بدون ديمقراطية متجذرة و راسخة، و لا ديمقراطية متجذرة و راسخة بدون وحدة وطنية و انسجام مجتمعي و لا وحدة وطنية و انسجاما مجتمعيا مع لزوم ما لا ينبغي أن يلزم من شخصنة الأمور العامة على حساب المؤسسات، مع ما تعنيه تلك الشخصنة الآثمة للشأن العام من إطالة في عمر الخلاف، و تقويض لكافة فرص التلاقي السانحة  بوفاق وطني شامل و مؤسس، تعتبر البلاد في أمس الحاجة إليه.
        الوفاق الوطني إذن، صمام أمان المرحلة، و مدخلها الأول للنفاذ نحو عهد موريتاني جديد، ملؤه المحبة و التسامح و أساسه البناء و التشييد، إنه الخيار المرحلي الأمثل لتجاوز منطق معارض و موال إلى فلسفة سياسية جديدة في طرحها و جادة في إرادتها، تنشد أول ما تنشد استجابة الموريتانيين عامة و الفرقاء السياسيين خاصة لإنهاء حالة الصراع الحدي المجرب في تعقيد مسارات الدول السياسية، و تعطيل  عجلات نموها الإقتصادي. و ارباك تطورها الإجتماعي و في المحصلة، قهقرة  تقدمها الحضاري بشكل عام. إنه بكل بساطة فعل وطني يعني بالنسبة للسياسيين مستوى من زيادة منسوب الأخلاق في السياسة كي توفق في الجمع  بين الإنسجام مع قيم المجتمع الأصيلة و الإستجابة لما تمليه متطلبات العصر، بحيث يهون على كل واحد أن يضحي بجميع  ولاءاته الضيقة فردية كانت أم حزبية. أمام الولاء للوطن. و أن تصغر في عينه كل الأجندة الخاصة اجتماعية كانت أم إديولوجية أمام عظمة أجندة الوطن المنادية على الجميع بضرورة تحيينها بماينفع الناس و يمكث في الأرض من تمكين ديمقراطي. يعتبر التناوب على السلطة حاليا أحد أهم ممهداته.
      إن حاجة البلاد اليوم لانتخاب رئيس مدني جديد هي المدخل المرحلي و الإستراتيجي الثاني لما يصبو إليه الشعب الموريتاني من بلوغ دولة القانون و القيم الديمقراطية المهيئة وحدها لتقدم البلد و ازدهاره، إذ لا خلاف في أن تقدم أي بلد رهين تحكم و تحكيم الديمقراطية في إدارة شأنه و ضبط سلوكه العامين، فالديمقراطية صارت بحكم العصر أداة تنمية اقتصادية و سلم اجتماعي لا غبار عليها، أثبتت ذلك تجارب دول كادت الحروب الأهلية أن تحيلها إلى عدم بعد وجود لولا أن تداركتها تجربة من ديمقراطية جادة أعادت للوحدة الوطنية ألقها و للنماء الإقتصادي  و الإستقرار السياسي بريقهما فعرفت شعوبها  السلم و الأمان وعم الإزدهار و الرفاه حياتها. يكفي لتقريب ذلك أن ننظر للنصف الآخر من كأس التجربة الرواندية الحديثة حيث التمكين الديمقراطي سر النقلة الحضارية النوعية، و سبب التحول المذهل من وضع سياسي و اجتماعي هزيل إلى حال المثال المحتذى في قهر كل عوامل الفشل و مهددات الوجود.
    غير أن التناوب على السلطة الذين نتغياه و ننشده من خلال هذه المقاربة لن يكون حاسما في توجيه بوصلة البلاد السياسية نحو القطيعة التامة مع عهد الإنقلابات العسكرية و الأنظمة الأحادية مالم تحظ تجربته بسياج من وفاق مرحلي على أهم أهدافه العامة والتي يجب أن يكون على رأسها خلق ديمقراطية راسخة يعمل الجميع في الخمس أو العشر سنوات القادمة على إيجاد الظروف الملائمة لجعلها تشب عن الطوق و تنطلق بنا من تلقاء ذاتها إلى مصاف الدول المتقدمة. أو بعبارة أخرى اعتبار المأمورية الرئاسية القادمة مأمورية مصالحة وطنية كبرى تجب إرادة الوفاق فيها كل ما سبقها من شقاق، و تؤسس لوحدة وطنية حقيقية، تبقى المراهنة على وجودها شرط الترسيخ الديمقراطي الذي بتجسيده واقعا سياسيا معاشا، نكون قد وصلنا المدخل الإستراتيجي الأهم لموريتانيا كما نريدها لا كما تراد لنا.

عضو المكتب التنفيذي لتيار الوفاق الوطني

تصفح أيضا...