في رحابِ ناسكٍ / محمد فال ولد عمير

أربعاء, 14/11/2018 - 11:14

ذات جمعة مباركة في قرية الدوشلية الهادئة بمنطقة المذرذرة. جغرافيا وتاريخيا نحن هنا في عمق إيگيدي المشهور في فضاء البيظان بثقافته الأصيلة القائمة على التوافق والتلاقي اللذين ميزا الأرض وسكانها. 
هنا يطبع الوقار والرزانة والتسامي سلوك الناس اليومي. هنا يتعاضد العلم غالبا مع الأخلاق. هنا يتماهى الفعل والفكرة. وهنا يتحول الصمت إلى تعبير كامل ينفث الروح في المسكوت عنه ويجعله أكثر وقعا من الكلام...
كان وقت عودة المواشي قد حان: فها هي الأبقار والماعز تتداعى للقاء صغارها؛ في الأماكن الأخرى تجري لحظات اللقاء هذه في ضوضاء يقصر عنها الوصف. أما في الدوشلية فكل شيء يجري في هدوء: لا خوار ولا صياح ولا خشونة في الحركات... فكأنما الحيوانات فد انطبعت بتلك السمة الأساسية التي تميز أهالي هذا الفضاء ألا وهي الهدوء.
في المدخل الجنوبي الغربي للقرية تتنزل الرحمات في هذا المكان القصي في لحظة سرمدية: يخرج المرابط محنض بابه ولد امين من عزلته لتقديم درس فريد لثلة من الطلبة يولونه كل اهتمامهم. فاللغة والعلوم الشرعية تدرس هناك 
لكن ذلك لم يكن ليمنع المرابط محنض بابه من استقبال زواره الذين يأتون أحيانا من أماكن بعيدة للاستماع إليه ورؤيته واستشارته. وكنت أحد هؤلاء في هذه الجمعة.
كان يراودني على الدوام الحلم بلقاء هذا الشخص الاستثنائي، لكنني كنت أتوجس خيفة من الرد على الأسئلة التي يطرحها مع أني كنت أقول لنفسي إن هذا الرجل الصالح لا يبتغي إحراج زواره بل يروم ربما تلطيف الجو وتهيئة مخاطبه لتبادل الحديث وإعطاء زائره المستعجل درسا في حسن المعاملة وحسن المخاطبة.
كنت قد حضرت نفسي جيدا للقائه. ففي صباح ذلك اليوم الباكر كنت في ملزم الزريبة حيث مدفن جدي حبيب الله المختار  المعروف أكثر باسمه المحلي "حيب الله نالمختار". وكنت قد ملأت علبة من التراب المغطي للضريح عاقدا العزم على إهدائها للمرابط محنض بابه إذا ما سنحت الفرصة.
عندما وصلت أنا ورفقتي إلى الدوشلية كانت دائرة قد أحاطت بالمرابط محنض بابه. يأتي في الطليعة طلابه رجالا ونساء بفترشون الأرض وقد تملكهم حماس كله لطف، لا شيء هنا يجنح إلى التباهي ولا حتى إلى الحماس البسيط . ثم يأتي الزوار بعد ذلك. 
كان النقاش قد بدأ بين المرابط وأحد الزوار القادمين من بعيد حول إمارة الترارزة وأبرز وقائع المقاومة فيها والمقابر التي دفن بها أشهر شخصياتها والقيم التي صنعت عظمتها... لم يكن ما نحضره حوار طرشان بل كان تبادلا بين عقول كبيرة. تأكدت من خلال ذلك أن "الاختبار الكبير" الذي يخضع المرابط له زواره هو  مسلك في التعبير لمخبت منح حياته كلها لله فامتلك السعادة الأبدية.
للمرابط وجه أخاذ. فهذا الكائن الذي يبدو ضعيفا لدى أول نظرة متقشفا في لباسه مفترشا الأرض يتمتع بقوة متنطعة على القياس. فهو بمثابة صرخة ضمير في وجه كل الأباطيل التي تمور بها الدنيا الفانبة.
ينطلق صوته متناغما مع البيئة من حوله، لكنه يجلجل كما لو كان تحديا لكل ما تعج به الأرض من تنافر وصخب.
ورفض المرابط كل الهدايا باستثناء تلك التي قدمتها له... 
غادرته وفد تملكني شعور غامر بالسعادة... سعادة من اختلس لحظة من زمن الخلود وبقعة من فضاء اللامتناهي.

رابط المقال بالفرنسية:

https://oumeir.blogspot.com/2018/10/dans-les-dimensions-dun-anachorete.html

تصفح أيضا...