الشيخ بكاي : لماذا أنشر هذا الكتاب وما الفائدة منه ؟

جمعة, 18/11/2022 - 10:09

الجواب في المقدمة  التي وضعت له:

 

لا تعود إليَّ فكرة نشر هذا الكتاب.. هو اقتراح قُدِّم إلي بإلحاح من عدد من الأصدقاء فقبلتُه متردِّدا يُساورني الشك في قيمة أن أعيد نشر مواد صحفية قديمة.. 
لن أدعي أن الكتاب يحمل الجديد، لكن سأبسط للقارئ ما يمكن أن يكون الهدف من نشره مؤكدا أنه لا يحمل إلا جانبا من تجربتي الشخصية المتواضعة في الصحافة المكتوبة.
أسعى من خلال هذا الكتاب إلى أن يسأل القارئ نفسَه بعد قراءة النصوص عن العلاقة بين الصحافة والأدب.. وهل يمكن المزج بين العمل الصحفي   والكتابة  الإبداعية؟
ولأن الكتاب لا يحمل إلا نصوصًا ترتبط بتجربة شخصية، سأمُرُّ قليلا بالعلاقة بين مهنة الصحافة والكليات التي تُدَرِّسها من خلال الحديث عن تجربتي:
عُيِّنتُ مديرا لتحرير " الوكالة الموريتانية للأنباء" بعد شهور من تخرجي في الجامعة.. كانت دراستي في صميم التخصص، وحصلت على الشهادة بتقدير "جيد جدا"، لكنني أعترف هنا أني لم أكن أملك من أدوات  العمل  أي نصيب. فالجامعات تقدم الدراسات النظرية التي تسمح لك بالكلام في الصحافة لكن لا تجعلكَ صحفيًّا.
كان في مقدوري "الاحتماء" بالمكتب، وإصدار الأوامر، ووضْع توقيعي على الأخبار قبل نشرها. فالمهم ألا يكون فيها "خطأ سياسي".
 وكان "قرار" من وزارتي الإعلام والوظيفة العمومية قد منحني رتبة " كاتب صحفي" من الدرجة الأولى. لكنني  كنتُ أريد أن أكون صحفيًّا في الواقع، ولذا قرَّرتُ إغلاقَ مكتبي والانضمام إلى الصحفيين في قاعة التحرير .. أتعلم منهم، أحرِّر معهم، أترجم معهم، وأوقِّع الأخبار، وأحملها أحيانا إلى قاعة "الإبراق" لأطَّلِع على ذلك الجانب الفني من العملية.  
حرصت على أن أكون أحيانًا ضمن فرق التغطية مُتدرِّبًا على أيدي مَن أقُودُهم، ولم يكن ذلك مستساغًا، فنظرائي من المديرين لا يحضرون إلا أنشطةَ رئيسِ الدولة، وليسوا – بالطبع- مَعنِيِّين بالتغطية.
كانت الوكالة مشترِكة في خدمتي وكالة الأنباء الفرنسية و وكالة "رويترز"، ما أمدَّني بمادة مهنية غزيرة.. كنتُ أقرأ البرقيات كثيرا في مقر العمل، وأقصُّ أجملَ التحقيقات لأقرأها مَرَّات في البيت.
نأيتُ بنفسي دائما عن مزاحمة الآخرين في الامتيازات والمنافع المادية، لكن أعترف هنا أني زاحمتُ الزملاء في الحصول على التدريبات.. وقد استفدت كثيرا من ذلك. كما كنتُ محظوظًا بالتنقل بين  وسائل الإعلام المختلفة. فمن الوكالة عُيِّنتُ مديرا لتحرير يومية "الشعب" بطبعتيها العربية والفرنسية، ثم مديرا للإذاعة في "هيئة الإذاعة والتلفزة الموريتانية". وظَلِلْتُ محافظا على الأسلوب نفسه أي الاندماج في التحرير كأي محرر آخر..
المهم من كل هذا هو أن أشير إلى أنه رغم دراساتي الجامعية المتقدمة فإن أفضل أستاذٍ تَعَلَّمْتُ على يده كان ميدان العمل بإكراهاته وإغراءاته. لذلك، فالصحافة مهنة لا تُكتسب إلا بالدُّربة ولا يُشترط – بالضرورة-  أن يحمل ممارسُها شهادةً في المجال. 
استفدت من خبرات كثيرين، لكن لا أستطيع إلا أن أتوقَّف عند الصحفي الأميركي جيفري أولبريتش Jeffrey Ulbrich الذي كان له تأثير كبير عليَّ...  ظل هذا  الرجل رئيسي في الـ"آسوشيتد بريس" لأعوام... كان شديدا، ويملك أدواتِ عمله  ومُغرمًا بالأجواء والتفاصيل الإنسانية..
في بداية عملي معه كان كثيرا ما يعيد إلي القصة بملاحظاتٍ قاسية تصل أحيانا إلى مثل هذه: "بكاي.. حاول ألا توسخ قاعة التحرير.. ما هكذا تكون الفيتشر...". لكنه كان أيضا حينما أُوَفَّق يُعيد إليَّ نسخةً مكتوبًا عليها: "شكرا إنها قصة رائعة..."
كنا وقتها نستخدم "التليكس"، لكن حينما يَشتمُّ رئيسي رائحةَ قِصةٍ في نَصٍّ بعثتُ به يتصل بالهاتف منتقدا، مُوجِّهًا، سائلا عن كل التفاصيل (المسرح الطبيعي، الأصوات، الروائح، الألوان، وصف أكثر لوجوه الأشخاص، ومشاعرهم)... وهنا يكون عليَّ أن أُعيد كتابةَ القصة.
لم أكن أتضايق من هذا النقد اللاذع، وما زلتُ أحتفظ بكل تلك الرسائل، وأحتفظ برسائل أخرى تُبُودِلَتْ بيني ورؤسائي في الـ"بي بي سي" تحمل نقدا وتشجيعا.
لن أدعو القارئ الذي يفكر في أن يكون صحفيًّا ولا الصحفيِّين المبتدئين إلى الاقتداء بالنصوص المنشورة هنا لكن سأشرح لهم بعضَ سمات الكتابة التي سعيتُ إليها.
من السهل جَدًّا أن يعتمد الصحفي أسلوب " قالت الحكومة ...": وهو أن يحصل على بيان أو تصريح من الحكومة، ويحصل على مواقف الأطراف الأخرى، ويكتب قصة متوازنة تعكس كل الآراء.. ولن يتطلب منه الأمر إلا وقتا يجمع فيه هذه المعلومات.. وفي الواقع لا تشجع الصحافة اليومية إلا هذا النوع الخالي من أي إبداع.. غير أنه حينما يرمي بنفسه داخل الحدث، يلتقي الذين يؤثر فيهم الحدث، يتحدث إليهم، ويتفحص المكان، يخرج بقصة مختلفة تماما من حيث الزاوية والأسلوب والتأثير عن قصص "أعلنت الحكومة.."..
وإذَا كان معظمُ النصوص المنشورة في هذا الكتاب من النوع الذي لا يرتبط بمواعيد نشر، فإن ذلك لا يعني أن نمط الكتابة الذي أتحدث عنه لا يكون في ما يعرف  ب  Hard news، أو الأخبار الجادة كما يترجمها بعضُهم.
خُذْ مثلا انفجارا يقع في حَيٍّ مكتظ، أو في سوق.. هناك طريقتان: طريقة سرد الوقائع العادية في شكل جافٍّ.. لكن يمكن الخروج بقصة تغطي الحدث بأسلوب جميل يركز على الإنسان.. على الناس العاديين وتأثُّرهم بما يجري..
ومطلوب من الصحفي هنا أن يكون ذا قدرة على الإحساس بالناس، وأن تكون له أذن تلتقط إيقاع الحياة في الأماكن، وإيقاع اللغة أيضا.. وأن يكون قادرا على أن يتخيل نفسه وقراءه مَحَلَّ الذين يَكتب عنهم.
ظلِلتُ حريصا على نقل القارئ معي إلى عمق الحدث. ومع أني أحس أحيانا أنه قد لا يستوعب لماذا أُكْثِرُ من وصف المسرح الطبيعي إلى درجة أن أنقل ردودَ فعل الجماد والحيوان والنبات، فإن هذا الوصف في رأيي أفضل طريقة لخلق الأجواء والإحساس بالمكان. 
أعمد في الغالب إلى تنويع إيقاع الْجُمَل من أجل خلق الأجواء الدرامية المطلوبة في بعض الموضوعات، وأعتمد كثيرا أسلوبَ السرد الذي أجده من جهة أكثر إمتاعًا، ومن جهة ثانية  يساعد في تمرير معلومات ثقيلة وإحصائيات، من دون قَطْعِ انسِيَابِيَّة القصة وتَدَفُّقِها، وإبقاء القارئ مرتبطا بها حتى النهاية.
نُشر معظمُ هذه التحقيقات والتقارير في جريدة"الحياة" اللندنية، ومجلة "الوسط" التي كانت تصدر عن دار "الحياة"، والقليل منها كتب لـ "بي بي سي".. 
أتركك والكتاب عزيزي القارئ آملا أن تجد فيه بعضَ ما نُشِرَ من أجله.
الشيخ بكاي

( الكتاب موجود لدى مكتبتة 15/21  التي تولت توزيعه)

تصفح أيضا...