حتى لا نكون مثل دولة " ناورو" ! / أحمد ولد الطالب محمد- خبير استكشاف و إستغلال الموارد المعدنية

سبت, 01/10/2022 - 11:45

 

 

موريتانيا، بلد حباه الله بالخيرات كان يعيش أهله حياة بسيطة في بيئة عذراء قبل أن تتوالى الإكتشافات المعدنية و النفطية و الغازية و يتوالى معها تغير نمط حياة شعب بأكمله و اليوم و نحن ندخل مرحلة حاسمة من تاريخ البلد جراء نية دخوله نادي الدول المنتجة للغاز و المتنوعة الإنتاج المعدني (بعد الحديد و  الذهب و النحاس سيأتي قريبا دور اليورانيوم و معادن أخرى) بدا لي أن من مسؤوليتي كأحد أبناء هذا البلد و أحد المهتمين بما يحدث فيه سواء كان ذلك متعلق بباطن أرضه (جيولوجيا) أو فوق ترابه (إقتصاد) ، أن أدلي برأيي و أساهم و لو بهذا المقال المتواضع في رسم تصور لما قد نؤول إليه حسب تعاملنا مع الوضعية الجديدة التي تلوح في الأفق.

 

لنبدأ بدولة ناورو و قد نسأل أنفسنا ما علاقة جزيرة 

 

صغيرة في المحيط الهادئ لا يربطنا بها تاريخا و لا جغرافية؟

سؤال وارد و لكن لنترك الإجابة عليه لما بعد قراءة المقال كاملا.

 

جزيرة ناورو هي أصغر جمهورية في العالم بمساحة تقدر ب 21 كيلومترا مربعا فقط ، تعرف بأنها الدولة الوحيدة في العالم التي لا عاصمة لها و أنها الأقل زيارة من بين جميع دول العالم كما أنها من أقلها تعدادا للسكان حيث يقدر عددهم بما يقارب 10000 نسمة حسب إحصائيات عام 2022.

 

كان يعيش في الجزيرة المسماة قديما "جزيرة السعادة"، شعب ناورو الذي عرف بقناعته وطيبته رغم الفقر المدقع المحيط به، لكن الله حين يفتح باب رزق لخلقه فلا عقل و لا منطق يمكنه استيعاب ذلك.

 

طائر النورس سيكون السبب في ثراء هذا الشعب. كيف ؟ شكلت فضلات طائر النورس عبر آلاف 

 

السنين، فوق الجزيرة ، طبقات من معدن الفوسفات الغني سوف تصبح فيما بعد، ثروة ناورو العجيبة. 

 

في القرن التاسع عشر عندما علمت ألمانيا أن للجزيرة مقدرات قامت بحيازتها و في أول سنة من القرن العشرين قدم إليها ألماني يدعى "مولر" ليكمل دور النوارس مكتشفا لأهلها رواسب الفوسفات. 

 

بعد سنين قليلة أصبحت بريطانيا هي المستعمر فقامت بإنتزاع حقوق التعدين في مستعمرتها الحديثة و كان الفوسفات بمثابة الكنز الذي أسست أستراليا و نيوزيلندا صناعتهما الزراعية عليه و ذلك عبر الأسمدة المنتجة من رواسب ناورو الفوسفاتية !

 

ظلت بريطانيا تنهب ثروات الجزيرة حتي قرر سكانها طرد المستعمر و نيل استقلالها سنة 1968. قامت الحكومة من حينها بتأميم مناجم الفوسفات و قد صاحب ذلك إرتفاع جنوني لأسعار هذه المادة حيث قفزت من 10 دولارات للطن إلى ما يزيد على 65 دولارا في سبعينيات القرن الماضي و في سنة 

 

1980 تحولت ناورو من الجزيرة المتواضعة إلى أغنى دولة في العالم من حيث نصيب الفرد، متفوقة على المملكة العربية السعودية التي كانت تشغل المركز الأول في منتصف السبعينيات.

 

بدأ المال يتدفق على الجزيرة و معه الكسل و العزوف عن العمل الذي تسلل إلى الشعب الناوري ؛ كثرة شراء السيارات الفارهة و جلبت الدولة لكل بيت عاملات آسيويات يقمن بالأعمال المنزلية فيه. انتهج أهل ناورو نمطا استهلاكيا فاضحا لدرجة أن عطبا بسيطا في سيارة أحدهم كان كفيلا برميها و استيراد أخرى جديدة من أستراليا. 

 

هكذا تغير نمط عيش الجزيرة فساد الإعتماد على الوجبات السريعة و المستوردة حتى تغيرت أشكال شعب ناورو كما تغير حال إقتصادها و أصبحت السمنة منتشرة و صارت ناورو أكثر بلد على المعمورة نسبة إنتشار للسكري فوصل عدد المصابون به حوالي 40% من إجمالي السكان. 

 

و في ظاهرة نمطية تصاحب متلازمة الثراء السريع، بدأ مسلسل شراء العقار خارج البلد و قامت ناورو باستثمارات أقل ما توصف به أنها غير مدروسة و من ذلك شراء أسطول من طائرات ابوينغ 737 دون دراسة مسبقة ! 

 

باختصار، لم يتم استخدام الإنفاق خلال سنوات الازدهار بشكل جيد و رغم الإنذارات المتكررة من قرب نفاذ مخزون الفوسفات لم يتغير شيئا في هذه البقعة من العالم.

 

دارت الأيام و ضربت "لعنة الموارد" الجزيرة، فشهدت انهيارًا اقتصاديًا حادًا بعد نفاذ رصيدها المعدني الذي شهد كما رأينا استنزافا كبيرا كانت تعتمد عليه البلادفصارت تتذيل ترتيب الدول الفقيرة كما وصلت نسبة البطالة فيها 90% وصل بها الحال إلى الاختناق المالي ثم إفلاسها سنة 2002.

 

بدأت الجزيرة تعيش على المساعدات الدولية و بما أن جل الأعمال كان يقوم بها مواطنون من دول 

 

الجوار و من الصين نسي مواطنو الجزيرة حس العمل و لم يعد أحد منهم له رغبة في النهوض من جديد ! اضطر السكان إلى العودة للصيد للتكيف مع الحالة الجديدة بعد إنتهاء مظاهر البذخ وتدهورت كافة الخدمات حتى أصبح شعب ناورو يعيش على المعونات الخارجية التي يتلقاها من بعض دول الجوار.

 

لكن الأكثر مرارة ليس الإفلاس بل إن التعدين الفوضوي جعل 80% من الجزيرة غير قابل للسكن و تم دحر السكان إلى شريط صغير محاذي للشاطئ لم يبقى ممكنا السكن إلا فيه. فقلب الجزيرة أصبح عبارة عن أكوام من الصخور الجيرية المتناثرة و العشوائية ناتجة عن مخلفات استغلال المناجم.

 

و لكي لا نتوقف عند نهاية درامية سأسرد بإختصار ما حصل مع الجزيرة و لو أن ذلك يهم موضوعنا بدرجة أقل.

 

في خضم الأزمة الخانقة جاء "الفرج" من أستراليا 

 

التي اقترحت على الجزيرة إنشاء مركز لمعالجة طلبات اللجوء لأستراليا في ناورو ترحل إليه هذه أستراليا طالبي اللجوء و تم بموجب الإتفاق إطلاق المركز الإقليمي المسمى (RPC) عام 2001 ليتم إغلاقه عام 2008 ثم يعاد افتتاحه عام 2012. وبقدر ما كان المركز مثيرا للجدل ، فقد كان بمثابة طوق نجاة  للبلد حيث وصل ما تجنى منه الدولة ما زاد قليلا على نصف إجمالي الإيرادات الحكومية في 2019/2020.

 

بالطبع تعلمت الدولة بعض الدروس من سوء الإدارة و التخطيط. فقد سددت معظم ديونها. وفي عام 2016 ، أنشأت صندوقًا استئمانيًا جديدًا للأجيال لحفظ مدخراته للسنوات القادمة و تجنب سوء الإدارة و يدار الصندوق بالاشتراك مع دولتين من المانحين هما تايوان وأستراليا.

 

لقد أدى استغلال ناورو لمواردها دون تخطيط و دون حماية للبيئة بالإضافة إلي إنعدام خطة تنويع إقتصادي إلى حالة فريدة ستبقى مضرب المثل في 

 

"نغمة الموارد" و قد تجلت خطورة الإعتماد على مصدر دخل واحد بالنسبة للدول في هذا المثال. فتنويع الإقتصاد و بناء رأس المال البشري هما صمام الأمان للدول و أحسن استثمار لها هو الإستثمار في مواطنيها ، تعليما و صحة ...إلخ.

 

إن التعدين يمكن أن يصبح قاطرة للتنمية و محفزا لتنويع الإقتصاد شرط التفكير في إدارة سليمة للبيئة و التفاوض على شراكات عادلة و تحويل ريعه إلى نشاطات إقتصادية تضمن التحول من الإعتماد على موارد غير متجددة إلى نشاطات مستديمة.

 

من جنة الموارد المعدنية إلى جحيم الإنكماش الإقتصادي رأينا كيف تحولت دولة خلال طفرة استغلالها لمواردها إلى السقوط من مرتبة أغنى دولة في العالم إلى أفقر دولة في فترة وجيزة لم تتعدى الجيل الواحد !

 

الآن إذا أعدنا السؤال الأول (ما علاقة جزيرة صغيرة في المحيط الهادئ بعيدة كل البعد عن واقعنا) قد 

 

يتبادر الجواب أو على الأقل يعرف المغزى من المقارنة. 

 

ألم نقرأ في هذه السطور، كلمات مرت علينا و من المؤكد أننا سمعنا بها من قبل و قد تدور في أذهاننا لفترة أكثر من الزمن : بيئة عذراء - إستعمار - نهب ثروات - تأميم مناجم - عدم تخطيط - تذبذب أسعار - تدفق المال - شراء سيارات فارهة -  شراء أصول في الخارج - نمط استهلاكي فاضح - استثمارات غير مدروسة - إنتهاء البذخ - الإفلاس - المساعدات - محاولة النهوض .... إلخ ؟؟

 

قد لا تصبح هذه المفردات حكرا على ناورو وحدها.....فلنعى جميعا، الدرس جيدا و لتكن موريتانيا و أجيالها خاصة تلك التي لم تولد بعد ، نصب أعيننا .... حتى لا نكون ناورو

تصفح أيضا...