الاستقلال والوحدة.. والرافضون / مذكرات المختار ولد داداه

جمعة, 20/11/2020 - 23:24

 لقد أعلنت في الخطاب الذي ألقيته امام البرلمان الإقليمي يوم 20 مايو 1957 أن الوحدة الوطنية هي أول الأولويات بالنسبة لحكومتي، وبدأ الاتصال منذ تشكيل الحكومة بحزب الوئام الموريتاني ورابطة الشباب الموريتاني ومجموعة كورجل الديمقراطية لاستكشاف إمكانيات تحقيق الوحدة السياسية الوطنية والتمهيد لها في مختلف أنحاء البلد. وعلى الرغم من تحفظ البعض وتهيّب البعض الآخر، فقد أخذت فكرة الوحدة طريقها الى التداول. وهكذا وجّه حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني «نداء في 12 ديسمبر 1957 إلى جميع الأحزاب السياسية والحركات والرابطات الموريتانية، دعا فيه جميع القوى الحية في البلد إلى توحيد الجهود في كافة المجالات وسعى إلى تعبئتها لذلك».
وبعد يوم واحد لبى حزب الوئام النداء معلناً قبوله للوحدة، أما رابطة الشباب الموريتاني فقد أعلنت في 26 من الشهر نفسه رفضها البات لأي شكل من أشكال الوحدة السياسية مع أي حزب، غير أن تصرفها ما كان لينال من مساعينا. وفي يوم 15 يناير 1958 عقد مندوبو حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني ومندوبو الوئام الموريتاني، أول اجتماع مشترك لهم، وقرروا فيه تشكيل لجنة للوحدة تتألف من ثمانية أشخاص يمثلون الحزبين سوياً، وحددوا أيام 26 و27 و28 فبراير موعداً لانعقاد المؤتمر التأسيسي للحزب الذي سيتمخض عنه الاتحاد الجديد. بيد أنه غدا من الضروري تأجيل هذا الموعد بسبب حادث كاد يقضي نهائياً على كافة ما بذلناه من جهد في سبيل تحقيق الوحدة، ذلك أن الوزيرين اللذين يمثلان حزب الوئام وهما الدي ولد سيدي بابا ومحمد المختار ولد اباه، إضافة إلى محمد فال ولد عمير أمير الترارزة والمستشار الإقليمي لحزب الاتحاد التقدمي، لجؤوا إلى المغرب وأعلنوا البيعة لملكه وعبروا عن مساندتهم لمطالب المغرب في موريتانيا على غرار ما فعله قبلهم حرمه ولد بابانا.
وانتهز زملائي في حزب الاتحاد التقدمي هذا الحدث فاستغلوه إلى أبعد الحدود لدحض ما تبنيتُه من سياسة ترمي إلى الانفتاح والوحدة، واعتبره أغلبيهم خير تعبير عن الفشل الذريع لتلك السياسة. ووصل الأمر بالمتشددين منهم إلى السعي إلى رفض مشروع وحدة الحزبين، وهو مشروع ما يزال في طور الإنجاز، متذرعين بأنهم يرفضون الوحدة مع من خانوا الوطن الموريتاني، لكن كان علينا في مثل هذا الظرف أن ندرك أن الوحدة السياسية أمر ضروري لمن يريد بدء بناء الدولة- الأمة انطلاقاً من الصفر، فقد كانت بذرتها الأولى تتشكل في تلك المرحلة، وكان من الواجب، ونحن نعد العدة لاستقبال الاستقلال المنتظر، أن نقاوم دعاوى المغرب، وسندنا الأساس في ذلك فرنسا، لاسيما ومطالب المغرب قد ازدادت حدة بعد انضمام شخصيات موريتانية إليها. وإذا عدنا إلى الحقيقة نجد أنه لم يكن لدينا من مقومات الاستقلال الفعلية آنئذ سوى إرادة وليدة لم تشمل الجميع بعد، ولكن الواجب كان يمليها.
لقد أصبحت خلال هذا السياق معزولا من زملائي في إدارة حزبنا، فقد أوهنني ذلك الفشل السياسي، وعشت أوقاتا عصيبة لا تُتصور وصلتُ فيها إلى حافة اليأس، لكن الأمل في الاضطلاع بعملية بناء الوطن مستقبلا، رغم ما يحيط بذلك من شكوك، كان كفيلا بتشجيعي واستنهاض همتي عسى أن أكون من بين أوائل بُناته. وآثرنا التصدي لتلك الضربة المؤلمة التي سبق أن تحدثت عنها بأن اجتمعت لجنة الوحدة بإيعاز مني يوم 21 مارس 1958، و«أكدت إرادتها الصارمة في تحقيق الوحدة بين الحزبين، ووجهت نداءً حاراً إلى كافة الموريتانيين دون أي تمييز للدفاع عن الوطن، ودعت إلى عقد مؤتمر في ألاك يبدأ في 2 مايو 1958».
وانعقد المؤتمر في الوقت والمكان المحددين رغم ما اعترض سبيل انعقاده من صعاب جمة، وكان بمختلف المقاييس تجمعاً كبيراً للموريتانيين. فقد توافدوا من كافة أنحاء البلاد حتى أنه كان من بينهم وفد من «موريتانيا الإسبانية» أو على الأصح الصحراء التي تحتلها إسبانيا، بقيادة خطري ولد سعيد ولد الجماني رئيس «لبيهات» (رقيبات الشرق المعروفين بالقواصم) قبل أن يصبح من الزعماء الصحراويين المغاربة، وقد عاد لزيارتي في نواكشوط سنة 1962 وبقي على اتصال بي عن طريق بعض الوسطاء حتى سنة 1975. وظل حتى ذلك التاريخ، رغم صلاته بالمغرب والجزائر، يعترف بموريتانية الصحراء التي تحتلها إسبانيا.
وسارت أعمال المؤتمر في ظروف صعبة، سواء تعلق الأمر بالمناخ الطبيعي (حيث كانت الحرارة تبلغ 40 درجة مئوية في الظل) أو بالناحية السياسية. وفي خطابي الذي افتتحت به المؤتمر وتبناه الوثيقةَ الأساسَ لأعماله، رأيت أن أثير كافة المشكلات الساخنة المطروحة على بلدنا وعلى المستويين الداخلي والخارجي: مثل الوحدة السياسية، وموقعنا في السياسة الفرنسية، وتعليم اللغة العربية، ومساواة جميع الموريتانيين أمام القانون (خاصة فيما يتعلق بالضرائب والخدمة العسكرية)، والعلاقات مع حزب التجمع الافريقي والتجمع الديمقراطي الافريقي ومع الاتحاد الفيدرالي المالي الذي هو في طور التكوين، ومع المنظمة المشتركة للإقليم الصحراوي،.. إلخ. وكانت كل واحدة من هذه القضايا مناسبة لنقاشات ساخنة بل وانفعالات أحياناً، وكانت غالبية مندوبي حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني، أي غالبية المؤتمرين، ضد الوحدة مع حزب الوئام نظراً للظروف التي سبقت الإشارة إليها، وقاومها بقوة كثير من المتحدثين الذين اعتلوا المنبر.
أما فيما يخص تطور وضعية البلد السياسية، فكان هناك شبه إجماع على قبول التمتع الاستقلال الداخلي. بيد أنه عندما أثيرت كلمة «الرغبة في الاستقلال الوطني»، انبرت أكثرية المؤتمرين لمعارضتها، وهو أمر كنا نتوقعه لأن معظم من حضروا هم وجهاء وزعماء تقليديون محافظون كلفتهم الإدارة الاستعمارية في هذه المناسبة بالرفض البات لكلمة الاستقلال «المنبوذة».
وكان معارضو فكرة الاستقلال يسوقون الكثير من الحجج لتبرير موقفهم من الاستقلال، حيث يقولون: «إن موريتانيا بلد ضعيف تهدد وجوده جارته الشمالية المغرب، وتهدده من الجنوب والشرق جارتاه اللتان ستنضمان إلى الاتحاد الجديد لمالي وهما السنغال والسودان الفرنسي، وإذا كان التهديد هنا أقل حدة فهو قائم على كل حال. وبما أننا لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا فإن علينا أن نتشبث بفرنسا وأن لا نفعل ما يغيظها أو يسيء إلى علاقاتنا معها. زد على ذلك أن فرنسا هي القادرة على تسيير المصالح الإدارية لهذا البلد الذي لا يتوفر على الأطر الكافية لتسيير شؤونه. فكيف يتجرأ على الحديث عن الاستقلال مَن كانت هذه حاله، لاسيما وهو لا يستطيع صناعة إبرة أو عودة كبريت؟». هكذا كان يعترض أكثر المعارضين دراية ببواطن الأمور عند مجرد ذكر عبارة الاستقلال.

المختار ولد داداه/ «موريتانيا على درب التحديات»

المصدر : صفحة محمد ولد مني 

تصفح أيضا...