......قطعنا بضعة أمتار من المعهد القرآني إلى قلب مدينة شالي النابض : المسجد الأكبر في أوروبا ، حيث تجمَّع المئات في الرحاب والطرق المؤدية إلى المسجد ، وأخذ كبار المسؤولين الروس مقاعدهم على المنصة المضروبة عند مدخل المسجد ، إلى جانب ضيوف الجمهورية الشيشانية.
نقلتنا الأقدام من حرم إلى حرم فكان لها الحمد بعد الله ، لا لعيس الفقيه عمارة اليمني وركابه التي يقول عنها :
الحمد للعيس بعد العزم والهمم حمدا يقوم بما أولت من النعم
لا أجحد الحق ، عندي للركاب يد تمنت اللجم منها رتبة الخطم
قربن بعد مزار العز من نظري حتى رأيت إمام العصر من أمم
ورحت من كعبة البطحاء والحرم وفدا إلى كعبة المعروف والكرم
فهل درى البيت أني بعد فرقته ما سرت من حرم إلا إلى حرم
بعد أن أخذ كل ضيف مُستقره وخفتت أصوات القادمين والمستقبلين قدَّم الشيخ آدم شهيدوف الفتى القارئ الشيشاني عبد الرحمن سيد حسين ماغومادوف ليفتتح المقام بآيات من سورة الإسراء ، ولا تخفى المناسبة في افتتاح المسجد بأوائل سورة الإسراء وهي التي جمعت في أول آية منها بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى الذي سُمي القصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة.
ثم تقدم مبعوث الرئيس الروسي في منطقة القوقاز الشمالي السيد ألكسندر ماتو فيفنيكوف إلى منبر الخطابة فألقى كلمة تهنئة بالمناسبة قرأ ضمنها رسالة تهنئة من الرئيس فلاديمير بوتين إلى الشعب والحكومة في الشيشان بهذه المناسبة.
ثم تلاه السيد سيرغي تشيبوتاريف وزير الحكومة الروسية لشؤون القوقاز الشمالي الذي نوَّه بالبعد الرمزي لبناء هذا المسجد ؛ حيث يتسع برحابه لمائة ألف مصل ، وهو ضعف سكان مدينة شالي.
وبعد ترجمة السيد آدم لكلمة الوزير دعا رئيسَ الجمهورية السيد رمضان قاديروف لإلقاء كلمته ، فبدأ الخطاب ، وكان السيد آدم يقطعه بالترجمة الفورية ، ثم كانت المفاجأة الكبرى التي حمل الرئيس في خطابه ، وهي تسمية المسجد الجديد باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، بعدما كان يتوقع أن يطلق عليه اسم الرئيس ، وكانت نبرة السيد المستشار على مستوى وقع المفاجأة حيث قال في الترجمة بأعلى صوته "...باسم نبينا وحبيبنا وإمامنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم" ثم نادى بكلمة تكبير ، فكبر الحاضرون وكبر معهم الرئيس ، فعل ذلك ثلاث مرات ، عاد الرئيس وأكمل خطابه.
تكرر نداء السيد آدم بكلمة "تكبير" وتكبير الحاضرين استجابة له في عدة مواقف من مشاهد هذا اليوم ، فكأنني كنت على علم بهذا النداء حين قلت وأنا في شنقيط في قصيدتي (تحايا إلى الشيشان) :
بعثتِ رسالات المحبة والهدى نداءً من الشيشان : الله أكبر
أظلتْ أوروبا للسلام منارة وبث بها روحَ التسامح منبرُ
والتكبير عند الفرح والنصر وظهور عزة الإسلام سنة مأثورة ، ولذا شُرع التكبير في خطبتي العيدين وفي حال المسير إلى المصلى لصلاة العيد ، وورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه عند الباب في دار الأرقم وأخذ بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال ما جاء بك يا ابن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة ، فقال عمر يا رسول الله جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عنده فكبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن عمر قد أسلم.
وفي حديث حفر الخندق أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب صخرة عظيمة إعتاصت عليهم في الخندق بمعول أخذه ؛ فكسر ثلثها بضربه ، وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعه ، ثم ضرب الثانيه فكسر ثُلثها الثاني وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ، ثم ضرب الثالثة فكسر بقية الحجر وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأرى أبواب صنعاء من مكاني هذا.
وفي خبر مسير خالد بن الوليد رضي الله عنه لإمداد جيش المسلمين بالشام ورد أنهم لما نفد ما معهم من الماء والإبل التي كانت مُعَدَّة للطعام والشراب قال لهم دليلهم رافع بن عميرة الطائي اطلبوا شجرة بمثل قعدة الرجل، فعندها الماء. ورافع يومئذ رمِد، فطلبوها فلم يصيبوها فرجعوا إلى رافع، فقالوا: إنا لم نصبها، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. هلكتم وهلكت لا أبا لكم. اطلبوها فطلبوها فأصابوها قد قطعت الشجرة وقد بقي منها بقية، فكبَّر وكبَّر الناس. فقال: احتفروا فاحتفروا عيناً عذبة مروية، فتزودوا وسقوا وحملوا.
وقال القاضي الوجيه ابن الذروي ، في انتصار لؤلؤ الحاجب العادلي مقدم الغزاة بالسواحل في وقعته المشهورة حين توجه العدو الذين قصدوا الحجاز في البحر المالح بعدة مراكب وشوكة ومنعة،وسولت لهم أنفسهم أمراً ، فأدركهم وأخذهم، ودخل بأسراهم القاهرة، وكان يوماً مشهوداً:
مر يوم من الزمان عجيب كاد يبدي فيه السرور الجماد
إذ أتى الجاجب الأجل بأسرى قرنتهم في طيها الأصفاد
بجمال كأنهن حمال وعلوج كأنهم أطواد
قلت بعد التكبير لما تبدى: هكذا هكذا يكون الجهاد
حبذا لؤلؤ يصيد الأعادي وسواه من اللآلي يصاد
و"الله أكبر" هي أول كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع في بني سعد.
ولا شك أن ارتجاج الساحات بالتكبير في الحفلات الرسمية بهذا البلد بدلا من التصفيق المعمول به في مثل تلك الحال في بلدان أخرى يدل على تجذر ثقافة إسلامية أصيلة في المجتمع الشيشاني.
بعد كلمة الرئيس تقدم الشيخ خوج أحمد قديروف لإلقاء كلمة باسم علماء القوقاز ، و في هذه الكلمة قال الشيح أحمد : خلال زيارتي للمملكة المغربية رأيت الناس يجمعون المال لبناء مسجد هناك ، فقلت لهم : إن ابن أخي -يعني الرئيس- بنى مسجدا كبيرا على نفقته الخاصة.
أومأ إليَّ أحد الحاضرين بأن السيد أحمد توفيق لن يترك هذه الفقرة من خطاب كبير علماء القوقاز تمر دون تعليق.
تتابعت كلمات رؤساء الوفود ، وبعد كلمة وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودي عبد اللطيف آل الشيخ أعلن عن هدية مقدمة من المملكة للشيشان بهذه المناسبة تتمثل في ثمانين مصحفا ، وقطعة من كسوة الكعبة ، وقد قام أعضاء الوفد السعودي بحمل الهدية وتقديمها للسيد الرئيس.
ثم دعا الشيخ آدم باسم الدكتور أحمد توفيق لإلقاء كلمة بالمناسبة ، فتقدم الوزير وهنأ الحكومة والشعب على هذا الجهد الكبير الذي تطالعنا اليوم نتائجه الكبرى ، وتحدث في هذا السياق عن بعض منجزات قطاع الأوقاف بالمملكة المغربية من بناء المساجد والمدارس القرآنية.
وختم بالتعليق على عبارة الشيخ خوج أحمد ، فقال : "سمعت هنا قبل قليل حديثا عن جمع التبرعات في المملكة المغربية لبناء مسجد ، وهذا يدل على تنافس المغاربة في الخير (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) ، وقد سرني أن يصل هذا الخبر إلى أقاصي المشرق الإسلامي"
وهنا عُلقت الجلسة لأداء صلاة الجمعة ، على أن يتم الجزء الباقي وهو تكريم الفائزين وأعضاء لجنة التحكيم في المسابقة الشعرية بعد صلاة الجمعة.
غادر أعضاء الوفد الروسي ساحة الحفل وفُتِّحت أبواب المسجد فدخل الحاضرون أفواجا لأداء صلاة الجمعة ، امتلأ المسجد بعلوه وسُفله وهو يسع عشرين ألف مصل ، وبساحاته ورحابه يتسع لمائة ألف.
بعد الأذان صعد المنبر الشيخ الدكتور محمد عبد الكريم العيسى ، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وخطب الناس ، وبعد أدائه الخطبتين أقيمت الصلاة على الداعية الإسلامي الشيخ العلامة السيد الحبيب عمر بن سالم بن حفيظ بن الشيخ أبو بكر بن سالم با علوي الحسيني الحضرمي. مدير دار المصطفى للدراسات الإسلامية في تريم.
"ابن أبو بكر" هكذا تنطق في النسب ، ولعلها من باب الحكاية ، ومن هذا ما وُجد بخط بعض الصحابة (فلان بن أبو فلان)
المذهب الفقهي المتبع في الشيشان هو المذهب الشافعي ؛ فلا إشكال في إمامة غير المقيم في الجمعة ، ولا في اختلاف الخطيب والمصلي ؛ أما على مذهبنا المالكي فمن شرط الإمام في الجمعة أن يكون مقيما ، ومن شرط صحة الجمعة كون إمام الصلاة هو الخاطب، إلا لعذر.
ومعلوم أن الاقتداء بالمخالف في المذهب الفقهي جائز ؛ لكن على تفصيل ، فما كان من شروط الإمامة المعتبر فيه مذهب المأموم على الطريقة الراجحة في المذهب ، مع أن بعض العلماء قيَّد جواز الاقتداء بالمخالف مذهبا بأن لا تراه يفعل ما يخالف مذهبك.
لذلك حصل لي حرج كبير لما لاحظت أن الخطيب غير مقيم ، وازداد الحرج لما أحرم غير الخطيب لصلاة الجمعة ، وشرط الاقتداء بالمخالف غير حاصل هنا ، مع ما في مخالفة الإمام والسواد الأعظم مما هو معلوم في النصوص الشرعية.
ثم إنني قررتُ التفصِّيَ من هذا الحرج بأن نويت صلاة الظهر قصرا وصليت صلاة الفذ مع محاذاة الإمام في الأركان حتى قُضيت الصلاة.
بعد سلام الإمام بلحظات بدأ الإعداد لإكمال وقائع حفل افتتاح المسجد.