99% من الانقلابيين هم عسكريون، و1% مدني أذكى قليلا من العسكريين وأكثر منهم جرأة.
والانقلابي عموما مثل داخل الحرب، قد يَقتل وقد يُقتل، وقد يهزم فيؤسر، وقد ينتصر، وقد يبلي البلاء الحسن ويقف على أبواب النصر، فيؤتى من جنده ويغدر به بعضهم ليقطف النصر ويصطفي لنفسه ثمرته خدعا وغدرا.
ولكن الانقلابي المحظوظ هو من يحظى بالنصر في النهاية وتصفوا له مشاربه، وتُسلم له مراتبه. وهذا هو صاحبنا الذي نتكلم على سيرته الآن.
*
فالانقلابيون العسكريون منهم الضابط المتعلم الذي أكمل درس العلوم المدنية والعسكرية، ومنهم المقل الذي أخذ بنصيب من هذه وكفل من تلك. ومنهم من دخل العسكرية بشق النفس وتدرج مدارجها بكد واجتهاد وشجاعة وتضحية حتى بلغ القمة. ومنهم من قفز فيها "خلسة"؛ أي بلا زاد ولا سلم إلا الوساطة والاستثناء بشفاعة من يمتُّ إليه بصلة نسب أو صهارة أو تأثير جاه أو مال... من الكبراء في السلطات العسكرية أو المدنية ... حتى أحله في غير محله ورمى به لا عن قوسه!
إلا أن "سبق" صاحبنا إلى التمرد وإقدامه على خلع النظام المسيطر، وإشهار ذلك عبر وسائل الإعلام، يرفعه دفعة واحدة فوق الجميع؛ فيصبح حديث الناس وسيد القادة وكعبة الساسة... بعدما كان ضابطا صغيرا مهمَلا في سربه، ونكرة مجهولا في مجتمعه!
بعد هذا لا تسأل عن عظمته وحكمته وعلمه وشرفه...
*
ثم بعد ذلك تتفرع الطرق وتختلف الأساليب والعواقب، حسب كل انقلابي وطبيعته، وكل بلد وشعوبه...
فمنهم من يرضى بالرئاسة والملك، ولا يكلف نفسه فوق البقاء على ذلك ما شاء الله. ويظل يحسب نفسه آدميا كالبشر: يمرض ويصح ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق (يسير بشرطة، طبعا!).
ومنهم من يتقدم به الغرور وتنزع به نوازع العظمة المفاجئة وعُقد النفس الدفينة، إلى مقام الربوبية الأقدس؛ فيُطعم حبُّه مع الطعام، ويُسقى تقديسُه مع الشراب، وتُلبس صوره مع اللباس، وتدرس سيرته في المدارس والمعاهد، وتُزين القصائد والأعراس وحفلات العقيقة بحبه ويسمى الأبناء باسمه. كما يقذف الرعب من بطشه، في الضمائر والنفوس.
وعلى العموم لا ترى شارعا ولا حارة إلا فيها صور كبيرة ومتقنة له في أجمل الأزياء الوطنية وأبهى الحلل المحلية. ولا يجرأ صاحب عقار على رفع بناية دون أن يكللها بصورة مكبرة له!
وخارجا عن ذلك تُختار الساحات الجميلة المكتظة في كل المدن لنصب تماثيله المجسمة ورفع صوره المكبرة. ومن آكد واجبات السلطة المحلية وأول مهامها العكوف على هذه التماثيل بالمسح والرعاية، والسهر على تلك الصور بالتجديد والإضاءة، وتعميم اللافتات والشعارات التي تقتبس من بديع أقواله، وجواهر بليغ حكمته وأحكامه...
ولا يجوز بدء أمر ذي بال أو غيره ولا خَتمُه إلا بالثناء على هذا الزعيم، الذي قد تبلغ قداسته حدا لا يجوز أن يوصف فيه بأوصاف أقرانه من الحكام؛ كالملِك أو الرئيس أو الأمير... بل يجل عن ذلك فيدعى بصفة فوقه مثل "الرمز" أو "القائد" أ "المهيب" أو كلها... الخ.
ثم إنه قد يعظم حتى ما يسعه بلده، ولا تكفيه دولته؛ فيمد عينيه إلى بلاد أخرى وينفق على زراعة حبه وقداسته في حقول أقطار أخرى من الشعوب العربية التي تثمر فيها زراعة الأفكار بالقليل من الجهد والمال، وتُصدِّق وتُصفِّق باليسير من الدعاية والإعلام!
ولكن ـ مع الأسى والحزن ـ مثل هذه الفئة من الانقلابيين ما أصابت بلدا إلا كانت عاقبة أمره خسرا... ومصيره بعدهم على خطر؛ لأنهم أحلوا الدولة وأركانها في شخوصهم، وخلطوا عملها بأوهامهم، وأشبعوا نهَمهم للسلطة بمؤسساتها وحتى بجيوشها... لكي لا يصّدّعون عن حكمها ولا تقوم دونهم!!
*
قلت: ولقد من الله على أهل موريتانيا بأن نجى عسكر حكمها وقادة انقلاباتها من هذا التجبر والتكبر؛ فما زادوا ـ غالبا ـ على نشر صورهم الرسمية في المكاتب الحكومية، ومكابدة رفع درجاتهم بجهود حزبهم السياسي المتجدد في كل طور من أطوارهم المتشابهة!
**
هذا وإن من الانقلابيين الذين تولوا الأمر وتقلدوا الحكم بصفاتهم العسكرية واحدا أو اثنين كانا فريدين في بلديهما وعظيمين في رد الأمانة إلى أهلها، وترك الحكم طواعية وتسليمه إلى رئيس مدني يختاره الشعب بحرية كاملة لا شبهة فيها، ثم الابتعاد عن السلطة ودوائرها، والتنزه عن الاستقواء برصيدها أو التحالف مع الصحب أو العشيرة على استبقاء مزاياها...
أولهما في جمهورية السودان يسمى "عبد الرحمن سوار الذهب"، والثاني في جمهوريتنا هذه يسمى "اعل ولد محمد فال" رحمه الله وجزاه خيرا عن هذه الدولة.