خلال السنوات الأولى لممارسة مهنة الصحافة،كانت كلمة "الصحافة" تعني الصحافة الورقية فقط ،وكان باعة الصحف اغنى من الصحافيين انفسهم،فالصحافي الذي يتقاضى راتبا هو ذلك الذي يشتغل في القلم او موريتاني نوفيل او اخبار انواكشوط او غيرها من الأسماء المعروفة،اما البقية فيستغلون بصفة موسمية،وكنت من الذين عملوا مع حبيب ولد محفوظ رحمه الله وبعدها مع اباه ولد السالك ثم محمد محمود ولدبكار واخيرا مع الوالد الدكتور عبد الرحمن ولد حرمة،ومع زملاء واساتذة رائعين هم سيدي ميلة،الحسين ولد محنض،ولد اتشفاغ المختار عبد الله ممدو باه وغيرهم.
بعد اسبوع من الكد والسعي وراء الأخبار وسهر الليالي لتصحيح الجريدة والاشراف على الماكيت يستلم احدنا مكتوبا يحمله سعيدا الى احد الباعة ليمنحه مقابله اجره الأسبوعي الذي بدأ بثلاثة آلاف اوقية وبتطور العمل وازدياد المداخيل اصبح خمسة آلاف من الورقة العريضة الزرقاء.
اذكر ان المبلغ كان يسمح لي بشراء " لبسة" كاملة من "خيط واحد"..اما المتبقي فسيصرف ببذخ خلال بومي الاجازة الأسبوعية..ولعل الباعة كانوا الادارات المالية لهذه الصحف.
وجوههم مازالت معي،لم تخرج من ذاكرتي،بابا المتجول مازال يمارس نفس العمل،لكنه تحول الى موزع على الباعة،ا"كار والداه" شقيقان كانا يقيمان مؤسسة تستوعب كل اقاربهما القادمين من المناطق الزراعية،اما مقر شركتهما فتحت سلالم "بالاس" ومامن كاتب او صحافي الا وارد ذلك المورد لساعات او لحظات حسب مزاج مدير الشركة،توفى احد الأخوين للأسف رحمه الله قبل سنوات في حين ترك الآخر بيع كلام اصبح يباع افتراضيا.
"البي" دخل عالم بيع الصحف متأخرا وبعد ان تعرف على هذا العالم واكتشفه قرر ذات ضحوة ان يكون صحافيا.اشترى نظارات طبية " غير طبية" ورخص لاسم من الاسماء وحمل حقيبة وانضم للطابور.
" المال" مسن من اهل الكبلة الساحليين،للوهلة الأولى يخيل اليك انه" بابا نويل" ضل طريقه،ذات الشعر وذات الذقن ونفس لون الزغب،المفاجأة الكبرى ان الرجل الذي يظهر عليه من الكبر مالا يضمر مختص في كرة القدم الدولية ومتابع لكل الأحداث الكروية،ولاحديث له الا عن هدف احرزه فلان او تسلل مر على الحكم دون ان يلاحظه.
خلال الأماسي ولمدة سنوات كانت تلك الوجوه تنتظم في طوابير داخل بهو او اروقة احدى الصحف،ثم بدأ العدد في التناقص حتى لم يبق لكبار الباعة من اثر في مقار الصحف او في الشارع او في النقاط التي دأبوا على بسط نضدهم فيها.
اين من واكبونا خلال سنوات الجمر؟
هل ارتقينا وهبطوا؟
هل سرقنا وسُرقوا؟
عينان حمراوان من لهيب يوم حار،جسم هده الإعياء من حمل اسفار ابناء الذوات،رجل يسير برجل واحدة يسابق بها الآخرين ليعود لأولاده باللقمة الحلال من عالم الحرام،البيظاني " الملثم" الذي يخشى ان يعيره الآخرون بشرفه،الكهل النحيف المرتعش اليدين وهو يعد الصحف سائلا الزيادة لزيادة الربح..
قبل ايام وجدت احدهم امام مبنى السفارة الليبية،كان مؤدبا ويتكلم ورأسه الى الأرض،ذرفت دمعتين كحبر ربما لم اكتبه لأمنحه حق بيعه لكنني قلت له بتينك الدمعتين: هل تذكرني؟
حين كنت اقف الى جانبك،استجديك ان تقرضني؟ هل تذكر مشاكلي التي كنت تحلها كمصباح علاء الدين؟
ارفع رأسك عاليا فأنت الوحيد الذي مازال على حاله اما زملائي فقد رذل جلهم وباعوا انفسهم لأنظمة ومخابرات ورجال اعمال ودول اخرى،وهجروا الحرف المحترم..هل تذكر ولد سيدي ميلة؟ انه في تكند وليس وزيرا للاتصال ولا مديرا للوكالة او التلفزيون؟ هل تذكر الساقط فلان الذي لم تربحوا اوقية من حروفه؟ اصبح مهما في هذه البلاد.
اتمنى لو ان لدي القدرة لجمع اصدقائي هؤلاء وان اجعلهم سعداء في حركة واحدة فقد انهكتهم عقود من حمل الزيف والهراء الذي إن كان بعضه مفيدا وسمينا الا ان جله سم وافيون تناوله على جرعات هذا الشعب البائس.
احبكم واترحم على من رحلوا منكم.