تقدم ست مسائل أو فتاوى صينية أجاب عنها الإمام اللبناني الأصل محمد رشيد رضا في رسالة لمسلمي الصين وجهًا جديدا عن التبادل الفكري بين الوطنيين الإصلاحيين في الصين والعالم العربي في فترة ما بين الحربين العالميتين.
وتزامنت الصحوة الصينية مع نظيرتها الإسلامية في العالم العربي، وقرر علماء صينيون الاستعانة بآراء فقهاء من العالم العربي، وكتب أحدهم المسائل الفقهية التي كانت تشغلهم إلى العالم اللبناني المقيم بالقاهرة آنذاك رشيد رضا الذي أجاب عنها بحذر مقدرًا اختلاف الظروف والمذهب واللغة.
رسالة عثمان
وردت لمجلة المنار رسالة كتبها عثمان بن الحسين من مدينة "قابضان" الصينية لرشيد رضا، وعرف عثمان عن نفسه بتواضع شديد مبديا سعادته بالحصول على نسخة من المجلد الأول من المجلة التي أسسها رشيد رضا وبدأ صدورها من القاهرة نهاية القرن الـ19.
ونقل عثمان لرضا ستة أسئلة كان علماء الصين المسلمون يناقشونها فيما بينهم، منها وضع الصين كدار للإسلام بصفتها جمهورية تسمح لمواطنيها المسلمين بحرية التدين.
وأجاب رضا بمجموعة من ستة أجوبة وفتاوى نشرها في أكتوبر/تشرين الأول 1930، بحسب ما تتبعه الأكاديمي المختص بالتاريخ الإسلامي لور هاليفي.
وكان رضا الذي كان يستقبل أيضا فتاوى من أوروبا والأميركتين وجنوب ووسط وشرق آسيا، قد ترجم سلسلة من المقالات التي نشرت في الأصل في صحيفة التتار في روسيا حول أوضاع مسلمي الصين بعد فترة وجيزة من الإطاحة الثورية بمملكة تشينغ الصينية.
وعكست الرسالة ما يمكن اعتبارها "هوية صينية إسلامية" في فجر منعطف حرج في تاريخ الصين الحديث، بعد هزيمة مختلف أمراء الحرب في نهاية عام 1928، عندما تمسك القوميون بحزم بكون جميع المسلمين في البلاد ينتمون بالكامل -بوصفهم مواطنين متساوين- للجمهورية الموحدة، بحسب الدراسة التي نشرها هاليفي أخيرا في مجلة جامعة بريل.
وتناولت الأسئلة نقاش اندماج المسلمين في الصين وجوانبه الفقهية ومسألة المذهبية، في حين تناولت الأسئلة الأخرى التقاليد الاجتماعية، وتلاوة القرآن للموتى، واستخدام الأسنان الذهبية، وتوقيت صيام رمضان، ومسألة "النساء المسلمات اللاتي يقلدن الأخلاق الغربية". وكانت هذه الأسئلة نموذجا للموضوعات الملحة والمثيرة للخلاف بالنسبة للمسلمين الصينيين عام 1930.
رحلة ما رويتو
عرّفت مجلة المنار عثمان باسمه العربي الإسلامي، وذكرت أنه ينحدر من مقاطعة يونان الصينية، وكان جده مترجمًا ومعلما ودرس العلوم الدينية والجغرافيا وتعلم العربية ودرس "كتاب هان"، وهو مزيج بين التقاليد الإسلامية والكونفشيوسية الصينية التي ظهرت في أوائل القرن الـ18، وبعد زواجه في سن السابعة عشر في السنوات الأولى للجمهورية الصينية، عمل مدرسا للغة العربية قرب شاديان المعروفة بمسجدها التاريخي.
وبسبب غنى مقاطعة يونان بالقصدير، والصراع الاستعماري الذي ساهم فيه التجار الفرنسيون في المنطقة، وظهور أمراء الحرب في المقاطعة، فرّ عثمان -واسمه الصيني ما رويتو- من المدينة وتنقل بين مدن صينية مختلفة إمامَ مسجد ومدرسَ لغة عربية، وتعلم الإنجليزية أيضا من مبشرين لجمعية الشبان المسيحيين.
وأسس عثمان مجلة الإلهيات العربية الشهرية التي صدرت بين عامي 1928 و1935 وتمتعت بقراءات واسعة وأشير لها بوصفها واحدة من أشهر المطبوعات في الصين، وذلك حتى الغزو الياباني للصين نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، إذ عاد لمسقط رأسه، ودعا لحب الوطن ومواجهة العدو الياباني.
وتعرض عثمان لانتقادات محلية من المجتمع المسلم بشأن الطريقة الصحيحة لممارسة الإسلام، وكان المجتمع المسلم في قوانغتشو يشعر بالقلق من النزاعات الأيديولوجية، وهو ما جعل بعض أفكاره مثيرة للجدل.
وتأسست جمهورية الصين عام 1911 بعد قرابة ألفي عام من الحكم الإمبراطوري للبلاد، وأطاح الثوار بسلالة تشينغ الحاكمة، ثم أطاح شيانغ بإقامة حكومة وطنية بعد أن طرد الشيوعيين، وشهدت هذه الفترة مشروعات تنموية واستقرارا داخليا قبل اندلاع الحرب الصينية اليابانية مرة أخرى في زمن الحرب العالمية الثانية.
وانقسم مجتمع هوي المسلم في دعم ثورة 1911، وأيد مسلمو هوي في شنشي الثوار، بينما أيد مسلمو هوي في قانسو حكم سلالة تشينغ الملكية، وبعد سقوط أسرة تشينغ أعلن مؤسس جمهورية الصين سون يات صن أن البلاد ستحكم بالمساواة بين قوميات المانشو والمنغول وهوي (المسلمين) والتبت وغيرهم.
وفي غضون 1949 اندلعت الحرب الأهلية الصينية بين حكومة الجمهورية الصينية آنذاك والمليشيات العسكرية الشيوعية التي انتصرت وأجبرت الحكومة الصينية على الفرار لتايوان، وأعلن ماو تسي تونغ قيام جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول 1949.
قضايا خلافية
أثار عثمان في كتاباته مسائل فقهية وعقدية حول التوحيد والمحرمات مثل لحم الخنزير وعقود التأمين وغيرها، وفي عام 1931 ترجم ما رويتو رسالة ابن تيمية التي تتناول الخوارج والشيعة، وانخرط مع العديد من علماء المسلمين بالصين في جدالات عنيفة ضد الأحمدية، التي وصل مبشروها إلى هونغ كونغ، معتبراً تعاليمهم خطيرة للغاية.
تلقي حياة عثمان (ما رويتو) الضوء على جانب من تحولات المجتمع الصيني المسلم في هذه الفترة، ومنها التمسك بالمذهب الحنفي، والتحول لأخذ الفتوى من الفقهاء العرب مثل رشيد رضا، وكذلك محاولة التوفيق بين الهدف القومي للصين الموحدة مع أهداف الوحدة الإسلامية.
وناقش عثمان في رسالته مسألة "دار الإسلام" و"دار الحرب" وبدا أن المثل العليا للجمهورية الصينية الناشئة كانت ملهمة له، إذ وجد فيها حليفا في مواجهة التبشير المسيحي والمد الشيوعي على حد سواء، كما تأثر بكونه عضوا في الجمعية الإسلامية الصينية للإنقاذ الوطني التي تعبر عن هذا التحالف الجمهوري الإسلامي.
كما أن تجربته الشخصية ورحلاته من شاديان في العام 1920 وقوانغتشو عام 1937 جعلته ينفر من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، ويحاول تجنب الحروب والصراعات.
أجوبة عربية
أظهرت أسئلة ما رويتو وإجابات رشيد رضا جانبًا مختلفا من الظروف التاريخية والعلاقة بين مواطني الجمهورية الصينية المسلمين والعالم الإسلامي، بحسب الدراسة المنشورة في مجلة جامعة بريل.
وكشفت الرسائل أن الطفرة القومية الصينية في ثلاثينيات القرن الماضي تزامنت مع اتجاه قوي نحو الوحدة الإسلامية بين الصينيين، ومن الواضح أن هذه الدوافع لم تكن متعارضة، بل كانت قابلة للتوفيق بالنسبة للعلماء الصينيين الذين سعوا للارتقاء بالصين الجمهورية إلى مرتبة "دار الإسلام" الفقهية، وهو ما كان من شأنه أن يحل التوتر الذي كان قائما في هذه المرحلة بين أن يكون المرء صينيا ومسلما في الوقت ذاته.
لكن رشيد رضا كان متحفظا على هذا التوجه، إذ اعتبر أن الصين لم تكن قط خاضعة لسلطان خليفة مسلم، وإضافة لذلك شكلت النزاعات بين علماء الدين في الصين انقساما كبيرًا وتعذر الاتفاق على عدد من القضايا، وتشكلت خطوط الصدع التي فصلت المجتمع الصيني المسلم إلى مجموعات عدة تتبنى قيما متضاربة.
ولهذا ربما تحوّل عثمان إلى رضا كسلطة فقهية خارجية بدلاً من إقناع العلماء بتبني وجهة نظره، على أمل أن يدعم رأيه في هذه النزاعات، ويساهم في النهاية في استعادة الوحدة في مجتمعه المنقسم.
المصدر : الجزيرة